مقالات
التآكل والاضمحلال اللبناني
أحمد الصراف
إذا مُتُّ فادفِنِّي إِلى جَنبِ كَرمَةٍ
تُرَوّي عظامي بعد موتي عُروقُها
ولا تَدفِنَنّي بالفلاةِ فإنّني
أخافُ إذا ما مُتُّ أن لا أذوقُها
أبو محجن الثقفي
***
لبنان، بلد الكرمة والكرامة والنور والحرف بدأ بالاضمحلال رويدا رويدا، وبدأ اليأس يبلغ بأهله مبلغه، وغزا الحزن وجوها لم تعرف يوما غير البسمة والفرحة.
***
وصلت لبنان قبل أيام، فوجدت الخراب أمامي ماثلا!
بعدها بيومين تركته لقبرص وعدت لأجد خرابا أكبر وآلاما أكثر بانتظاري!
الكهرباء تستمر لساعة لتنقطع لتعود لدقائق وتنقطع لساعات وساعات، والحل في الركون شبه الكلي إلى مولد الكهرباء بالديزل، إن توفر وإن وُجد المال لشرائه، بعد أن أصبحت أسعاره مثل النار التي يشعلها، هذا بخلاف توقف الدولة عن تزويد محطات الوقود بحاجتها من البنزين، ما كدس طوابير طويلة من السيارات والدراجات النارية أمامها، وانتظار أصحابها لساعات تحت الشمس وفي الحر والرطوبة الخانقة، وكالعادة جادت قريحة «اللبناني» في خلق أسواق سوداء وبيضاء وبنفسجية لبيع غالونات المحروقات، لمن يدفع أكثر.
الدولار أصبح يساوي 20 ألف ليرة تقريبا.
سندويشة فلافل صهيون أصبحت بـ8500 ليرة، فروج «هوا» المشوي أصبح بسعر 55 ألف ليرة، علبة السجاير الوطنية 8000 ليرة، والأجنبية بـ19000 ليرة، السرفيس 7000 ليرة! غالون الماء 10000 ليرة، تنكة البنزين 72 ألفا بعد أن كانت 22 ألف ليرة لفترة طويلة.
اما صحن الحمص الشهير فقد تجاوز ثمنه العشرين ألف ليرة بكثير، وهكذا مع بقية المواد والخدمات.
المحنة دفعت الكثيرين لاستهلاك المنتجات اللبنانية، التي أصبح تصريفها في الخليج صعبا جدا. كما أصبح للمواطن اللبناني، «غير الشريف طبعا»، دور حيوي «في زيادة محنة شقيقه المعتّر (وأصلها ربما المتعثر)» من خلال التربح من تهريب الوقود لسوريا، حيث السعر الأعلى.
وعلى الرغم من كل هذا الغلاء فإن أمورا كثيرة تبقى رخيصة نسبيا، خاصة ما يدفع منها بالليرة للحكومة ولشركات الخدمات الكبيرة، ولكنه رخص نسبي، بعد أن أصبح لليرة أسعار عدة في اليوم الواحد بين صراف الشارع وصراف المحل والبنك، والمصرف المركزي ومنافذ البيع، التي ترفض قبول الدولار علنا، خوفا من العقوبات الكبيرة، وهذا دليل على وجود بقايا سلطة!
أما الأدوية فحدث ولا حرج، حيث لها سوق سوداء، وأسعارها محكومة، ولكنها شبه معدومة في الصيدليات، بعد أن أضرب أصحابها وأغلقوها بالأمس لرفضهم البيع بسعر «الحكومة الرشيدية»، والأدوية اليوم أفضل هدية يحضرها المسافر للبنان معه لأصدقائه ومعارفه، حتى أدوية الصداع والرشح.
***
تبدو الأمور على السطح شبه طبيعية، عندما تنظر لها من بعد، لكن التوتر يغلي في النفوس وتجد مظاهرها في حركات الأيدي، وطريقة الكلام، والغضب لأتفه الأسباب، والسلاح يمكن أن يظهر في لحظات، وتُغلق الشوارع ويحوّل السير لطرق أخرى دون سبب غير الرغبة في دفع الناس لأن تغضب و«تشتم الحكومة»، ويفعلون كل ذلك بعيدا عن بيوت ومقار المتسببين الحقيقيين في كل هذا الأذى والانهيار في الأخلاق والأسعار.
***
لا أحد يعرف مصير أمواله في المصارف اللبنانية. ويمكن للروائي المحترف كتابة عشرات القصص الرائعة عن المصير الذي واجه مئات آلاف المودعين الذين فقدوا بين يوم وليلة كامل أملاكهم، ومدخراتهم، سواء كانت بالليرة التي انخفضت من 1500 للدولار لعشرين ألفا، أو التي بالدولار مع توقف البنوك عن صرف شيء منها لأصحابها، لأنها لا تمتلك ما يكفي منها في خزائنها أو في حساباتها لدى المركزي!
كما أصبح الكثيرون يبيعون ودائعهم في المصارف لمن يدفع لهم نقدا خارجها، وبدأ البيع بخصم %20 ليصل أخيرا لـ%80، أي تعطي شخصا شيكا بمبلغ 100 ألف دولار، ليودعه في حسابه، ولا يستطيع التصرف به، ليدفع لك خارجه نقدا 20 ألف دولار!
قد يكون المشتري شخصا أو شركة تغامر أو تأمل في رفع قريب لحظر السحب من الحساب المصرفي، أو يكون مصرفا، وهو الغالب، يقوم من يمثله بشراء ودائع الناس لدى البنك بخصم %80، وبالتالي تقليل التزامات البنك تجاه مودعيه!
العالم كله يعرف مبدأ: «من له حيلة فليحتل»، ولكن اللبناني هو سيد من عرف هذا المبدأ، لاستحالة العيش، والظروف الصعبة دفعته دفعا وأجبرته لهذا الوضع!
الكلام عن لبنان الغلاء في الماء والطعام والدواء ولبنان الطوائف والأحزاب والزعامات والاغتيالات والنصب والاحتيال والإبداع والرحمة والإنسانية يطول ولا ينتهي، ففي كل يوم ألف مأتم، وكأن القيامة قائمة غدا، مقابل ألف فرح، وكأن الدنيا لن تنتهي أبدا!
نقلاً عن “القبس”