الآم العراق السياسية: هل حكومة الأغلبية في مهب الريح؟
عقيل عباس
تمر أطروحة حكومة الأغلبية السياسية في العراق هذه الأيام بأصعب تحدياتها وصولاً إلى احتمال إطاحتها، أو تخفيفها على نحو لا يُبقى أي معنى لفكرة الاغلبية السياسية فيها. لعب عاملان أساسيان دورهما في صناعة هذا التحدي غير المسبوق.
العامل الأول هو مد حياة الإطار التنسيقي الداعي الى الإبقاء على تقليد الحكومات التوافقية الذي ثبت فشله على مدى 17 عاما من التجارب المتواصلة عبر ست حكومات “وحدة وطنية” منذ عام 2005 وحتى الآن. كان الإطار التنسيقي على وشك التفكك بالتحاق بعض أعضائه بحكومة الأغلبية السياسية التي يقودها التيار الصدري، لولا توصية دينية من المرشد الإيراني، علي خامنئي، بدخوله جميعاً في الحكومة أو ذهابه جميعاً نحو المعارضة. أوقفت هذه التوصية كل الاتفاقات الجانبية بين جماعات وأفراد ضمن الإطار للالتحاق بالتحالف الثلاثي الذي شكله التيار الصدري مع أحزاب كردية وسنية.
العامل الثاني هو سلسلة قرارات سريعة للمحكمة الاتحادية صبت في مصلحة الإطار التنسيقي، وعلى الأخص ثلاثة منها. الأول هو ما يُعرف الآن بـ”الثلث المعطل” عبر اشتراط المحكمة نصاباً عالياً، من ثلثي العدد الكلي لأعضاء مجلس النواب، لعقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، والثاني هو رفضها ترشيح السيد هوشيار زيباري لمنصب رئاسة الجمهورية بسبب تهم موجهة له بالفساد وإعادة فتحها باب الترشيح للمنصب، وثالثاً نقضها قانونَ النفط والغاز لإقليم كردستان العراق المُشرَّع في عام 2007، في ما يبدو ضربةً لأحد أعمدة التحالف الثلاثي، الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يقود الاقليم ويدير سياسته النفطية. نقضُ هذا القانون هو القرار الوحيد الصحيح من قرارات المحكمة، إلا أن الظاهر أن توقيته وغرضه غير مرتبطين بتطبيق الدستور وإنما بتوجيه رسالة تحذير سياسية للحزب الديموقراطي بعدم الذهاب بعيداً مع التيار الصدري بالاستثمار في حكومة الاغلبية السياسية. لكن يصعب الدفاع عن القرارين الآخرين على أسس قانونية. مثلاً ابتكار المحكمة لمفهوم الثلث المعطل الذي يمكن للإطار التنسيقي الوصول إليه عبر جمع 109 نواب لتعطيل عقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، هذا الابتكار يخالف روح تفسير آخر لقضية النصاب قدمته المحكمة في عام 2007. أما قرار منع السيد زيباري من الترشيح فهو يخالف على نحو صارخ مبدأً دستورياً أقره الدستور العراقي يتعلق ببراءة المتهم حتى تثبت إدانته من خلال حكم بات تصدره محكمة. بغض النظر عن الصلاحية السياسية الضعيفة لزيباري لتولي منصب رئيس الجمهورية، فإن حرمانه من الترشح للمنصب عبر المحكمة ليس منصفاً ولا قانونياً.
خلق هذان العاملان، التدخل الديني لخامنئي وقرارات المحكمة الاتحادية، واقعاً جديداً عَطَّل فعلياً المضي قُدماً في تشكيل حكومة الأغلبية، إذ أصبح عنقُ الزجاجة الضيق جداً هنا هو استيفاء شرط النصاب عبر ضمان حضور ثلثي العدد الكلي لأعضاء مجلس النواب لإمضاء الجلسة وانتخاب الرئيس، الذي بدوره يفسح الطريق لتكليف مرشح الكتلة الأكبر بتشكيل الحكومة. يحاجج الإطار التنسيقي ان لديه نحو 130 نائباً ما يعني قدرته على تعطيل جلسة انتخاب رئيس الجمهورية على نحو دائم حتى يصل التحالف الثلاثي الى صفقة تسوية معه.
لاستكمال هذه الهجمة الاطارية السياسية الناجحة، قُدم مشروع تسوية جديد، بحسب مصادر مختلفة، للتوصل إلى مثل هذه التسوية بين التيار والإطار تضمن اشتراكهما سويةً في الحكومة، مع ايجاد تخريجة مناسبة للاحتفاظ بشكل حكومة أغلبية سياسية إرضاءً للتيار الصدري. ينتظر مشروعُ التسوية هذا، المدعوم ايرانياً بقوة، رأي السيد مقتدى الصدر به، سلباً أو إيجاباً. إذا وافق التيار الصدري على مثل هذا المشروع، فسيعيد بهذا الاصطفاف السابق الذي كان سائداً قبل الانتخابات الأخيرة: المجتمع في جانب والطبقة السياسية كاملةً في الجانب الآخر، أي توقف مشروع الإصلاح عبر المنظومة السياسية من الداخل، وحينها سيجد المجتمع نفسه تدريجياً، وعلى نحو متسارع هذه المرة، مضطراً للجوء إلى الأساليب الاحتجاجية التقليدية لإجبار المنظومة السياسية على إصلاح نفسها، أو حتى اطاحتها. لا يمكن لأي حكومة توافقية، تضيع فيها المسؤولية وتتحاصص فيها الأحزاب في الدولة ومواردها، أن تنجح في العراق بعد احتجاجات تشرين والانتخابات الأخيرة التي قادت إليها هذه الاحتجاجات.
ما تزال هناك فرصة معقولة أمام التحالف الثلاثي لتحقيق نصاب الثلثين لعقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية. لكن في حال ظهور عجزه عن ذلك، خصوصاً أن بعض الولاءات البرلمانية في العراق قابلة للبيع والشراء، فالأفضل للتيار الصدري حينها أن يذهب للمعارضة، ويترك لشركائه في التحالف من السنة والأكراد خيار الاشتراك في الحكومة أو الذهاب للمعارضة معه. عملياً، يستحيل على الحزب الديموقراطي الكردستاني الذهاب للمعارضة، لكن هناك إمكانية أن يذهب بعض النواب السنة الى المعارضة، فيما يشترك أغلبهم في الحكومة.
سيضع اختيار التيار الصدري للمعارضة الإطار التنسيقي في وضع صعب جداً، أصعب بكثير من الوضع الذي يحاول الإطار حصر التيار فيه الآن. لن يكون صعباً على الإطار صناعة تحالف سني-شيعي-كردي يقوده هو لتشكيل حكومة أغلبية إجبارية، يغيب عنها تيار برلماني متماسك ومنظم وكبير كالتيار الصدري. لكن سيكون من الصعب جداً على مثل هذه الحكومة ان تنجز شيئاً حقيقياً او حتى تستمر طويلاً في الحكم. فالإطار نفسه يفتقر للتماسك والرؤية الموحدة، فضلاً عن سجله الكارثي السابق في الحكم. على الجانب الآخر، سيجد التشرينيون والصدريون أنفسهم في معسكر واحد، حتى رغم بعض الخلافات الجدية بينهما التي يمكن التخفيف من بعضها وحل البعض الآخر. سيشكل مثل هذا المعسكر معارضةً قويةً ومتماسكةً، في قاعة البرلمان وفي الشارع، تقود على الأرجح إلى إطاحة الحكومة والدعوة إلى انتخابات مبكرة جديدة. سيكون مثل هذا السيناريو كارثياً على الإطار التنسيقي، وجيداً لمستقبل العراق. حينها لن تنفع الإطار التوصيات الدينية القادمة من إيران ولا القرارات المنحازة للمحكمة الاتحادية.
نقلا عن سكاى نيوز عربية