اغتيال جديد… تحقيق جديد… لا جديد في العراق
مينا العريبي
في آخر أيام شهر رمضان الفضيل، شهدت مدينة كربلاء عملية اغتيال تظهر مجدداً عدم احترام المجموعات المسلحة لأي مبدأ من مبادئ الإسلام، اغتيال رجل أعزل لا يحمل السلاح، ولم يقدم إلا كل خير لبلده. قتل هذا الشاب العراقي لأنه شكل تهديداً لكل من ينتفع من الفساد والسلاح الخارج عن سلطة الدولة. هزت هذه العملية العراق، إذ كان المستهدف الناشط المدني إيهاب الوزني الذي كان من أبرز الشباب الناشطين المطالبين بمنع هدر المال العام، وحماية البلاد من الفساد والميليشيات، ومنع التوسع الإيراني في البلاد.
ترأس الوزني تنسيقية الاحتجاجات في كربلاء، ومد جسوراً مع الناشطين في مدن أخرى في العراق، ضمن الحركة الاحتجاجية المعروفة بـ«ثورة تشرين» التي انطلقت في أكتوبر (تشرين الأول) 2019. وقد نجا الوزني من محاولة اغتيال في ديسمبر (كانون الأول) 2019، ولكنه شهد مقتل رفيقه فاهم الطائي، أول ضحايا الاغتيالات التي استهدفت الناشطين العراقيين. لائحة أسمائهم تطول، إذ تعدى عدد القتلى بين صفوف المتظاهرين السلميين الـ700 منذ زمن، وكل منهم حمل رسالة تهدف إلى إنقاذ العراق من الفساد والمجموعات المسلحة والتوسع الإيراني في البلاد.
قتل الوزني، مثلما قتل غيره، أمام منزله، وأمام كاميرات المراقبة. يبدو أن القتلة لا يخشون الكاميرات، ولا يخشون القوى الأمنية، لأن أمثالهم من القتلة لم ينالوا أي عقوبة. فقبل الوزني قتل المحلل الناشط هشام الهاشمي أمام منزله أيضاً، وقد مر على مقتله عشرة أشهر من دون إلقاء القبض على قاتليه. سجل مقتل الوزني والهاشمي وغيرهما من قبل كاميرات المراقبة، وتنشر تسجيلات حادثة مقتلهما، مما يزيد شعور الحسرة والغضب في قلوب العراقيين. فما نفع كاميرات المراقبة إذن، إذا كان واجبها التقاط صور الجريمة من دون أي محاسبة، أو حتى من دون أن تكون رادعاً لمن يفكر في القيام بمثل هذه الجرائم البشعة؟
فور الإعلان عن مقتل الوزني، أعلنت الحكومة العراقية عن فتح تحقيق بهذه الجريمة. ولا شك أنها ستفعل ذلك حقاً، ولكن التحقيق لا يجلب نتيجة. فالتحقيقات السابقة التي خصصت للكشف عن المسؤولين عن اغتيال ناشطين عراقيين لم تخرج بنتيجة ملموسة، ولم يتم محاسبة من يقوم بإعطاء أمر الغدر. وكان الوزني نفسه قال في إحدى المظاهرات إنه سيحمل القوات الأمنية مسؤولية مقتل أي ناشط آخر، مطالباً بإزاحة من يفشل في حماية المدنيين، واستبدال من يستطيع ذلك به… «هناك كفاءات كثيرة بالبلد»، هذا ما قاله الوزني في تسجيل انتشر في حينها.
المشكلة أن العراق بات بلداً لا تعني فيه التحقيقات الوصول إلى نتائج ملموسة، أو تشكل رادعاً للقتلة. والدليل على ذلك أنه بعد 24 ساعة من مقتل الوزني، تمت محاولة اغتيال الصحافي العراقي أحمد حسن، عند نزوله من سيارته أمام منزله. وقد نجا بأعجوبة، لكنه ما زال في المستشفى يتعافى من إصاباته.
اغتيال الوزني يأتي ضمن سلسلة اغتيالات ممنهجة مدروسة. حملة الاغتيالات تستهدف نوعاً معيناً من الشباب العراقي، وهو الناشط الشاب الذي يتمتع بمصداقية بين العراقيين، ويرفض المساومة على مفهوم المواطنة. الهدف يبدو منع ظهور شخصيات وطنية ترفض نظاماً سياسياً مبنياً على الطائفية، ويقبل التوغل الإيراني في مفاصل الدولة كافة.
عانى العراق من الاغتيالات الممنهجة منذ عام 2003، عندما تم استهداف مجموعات مختلفة من المهنيين العراقيين على يد مسلحين مجهولين لديهم أجندات خارجية. بدأت الحملة بالطيارين الذين حاربوا في حرب العراق وإيران، وقتل أكثر من 30 منهم في الأشهر الأولى بعد سقوط النظام السابق. وتم استهداف الأطباء والصيادلة الذين تمت تصفيتهم من دون أي رادع في أرجاء العراق كافة. لائحة الاغتيالات السياسية التي انطلقت في أكتوبر 2019 تصب في اتجاه الاغتيالات نفسها التي استهدفت المحترفين من أطباء وأساتذة جامعة وغيرهم في البلاد؛ الهدف إضعاف العمود الفقري للمجتمع العراقي، وكل من يسعى إلى بناء دولة مدنية ترفض التقسيمات الطائفية والوصاية الخارجية.
قبل كل دورة انتخابات في العراق تتصاعد وتيرة العنف؛ هناك قوى تسعى إلى فرض نفسها على الساحة السياسية من خلال التخويف والترهيب. كما أن هناك قوى تريد أن تظهر رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي غير قادر على حماية الشعب، مما يقلل من فرصه لتشكيل الحكومة المقبلة.
وفي حين تدور هذه التطورات في الشارع العراقي، ينشغل الساسة باللقاءات المتصاعدة في البلاد؛ تظهر صورهم وهم يجلسون في قاعات فارهة، ويدلون بتصريحات حول نواياهم للانتخابات المقبلة. بالطبع، لا مانع من أن تجتمع القيادات السياسية في العراق، وأن تتبادل الآراء، وحتى أن تخطط للحصول على مناصب في الحكومة المقبلة. المشكلة هي أن المشاورات والاجتماعات لا تدور حول فكر سياسي أو برنامج حكومي، بل غالباً ما تدور حول كيفية تقسيم «كعكة السلطة». الحديث عن صفقات انتخابية بدأ فور إعلان الكاظمي عزمه إجراء الانتخابات؛ اليوم المشاورات تحتدم مع اقتراب موعد إجراء الاقتراع في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.
في دورتي الانتخابات السابقة، لم يشارك غالبية العراقيين في الإدلاء بصوتهم في الانتخابات لأنهم لم يؤمنوا بأن صندوق الانتخابات سيجلب التغيير المرجو. ويدرك الساسة ذلك، لذا يسعون إلى جلب عدد من الناشطين والشباب إلى قوائمهم الانتخابية.
أمام الناشطين الشباب ثلاثة خيارات: أولاً تنظيم أنفسهم سياسياً تمهيداً لخوض الانتخابات، ولكن ذلك يعني الانخراط بعملية سياسية لم يطرأ عليها أي إصلاح ملموس. ثانياً الإعلان عن دعم قائمة أو جهة سياسية معينة، مقابل ضمانات جدية لمعالجة الفساد والطائفية وغيرها من مشكلات في العملية السياسية. أما الخيار الثالث فهو مقاطعة الانتخابات، والمطالبة بعدم إجراء انتخابات تضفي شرعية على نظام سياسي لا يختلف أحد على أنه أضر بالبلاد. وهذا الخيار هو الذي بدأ يطالب به الناشطون المدنيون، بعد أن سئموا من إمكانية إحداث تغيير للنظام الحالي، خاصة أنه لا توجد فرص متكافئة لكل الأطراف التي تخوض الانتخابات؛ هناك أحزاب استحوذت على الملايين من الدولارات يمكنها أن تنفقها في الحملات الانتخابية, وهناك أحزاب تدعمها ميليشيات مسلحة ترهب نسبة من الناخبين، وتدفعهم إلى التصويت لصالحها، وتستخدم السلاح وعمليات الخطف لإزاحة منافسيها في مناطقها الانتخابية.
«كلا كلا للعملاء… كلا كلا للخونة» كانت هذه هتافات يرددها الوزني وهو يقود المسيرات في كربلاء. على من يؤيده ويريد أن يبقي ذكراه حية أن يرفض كل من خان العراق، وساهم في سفك دماء أبنائه، ويتصدى له من خلال صناديق الاقتراع.
نقلا عن الشرق الأوسط