اشتباك “اليونيفيل” وبيئة “حزب الله”: العاصفة تهبّ برياح إقليميّة ودولية!
يمكن لـ”حزب الله” أن ينفي علاقته بهجوم العاقبية ضد الآلية التابعة للكتيبة الإيرلندية في قوات “اليونيفيل”، ودعوته على لسان مسؤول وحدة التنسيق والارتباط وفيق صفا، إلى عدم “إقحام” الحزب في الحادثة، إلا أن الواقع يدحض ذلك، بصرف النظر عن المهمات التي تتولاها القوات الدولية العاملة في الجنوب اللبناني، إذ يتهم أنصار الحزب هذه القوات بالتآمر والتجسس وبأنها تسعى إلى تغيير قواعد الاشتباك.
وأياً تكن تبريرات “حزب الله” للحادث إلا أنه يحمل بطريقة غير مباشرة رسائل عدة إلى المجتمع الدولي. فمطالعة الحزب تقول إن الإشكال وقع بين الأهالي وجنود القوات الدولية، من دون أن تكون له خلفيات سياسية أو أمنية، فيما ردود فعل جمهوره تأخذ الأمر إلى سياق آخر، وذلك باتهام قوات “اليونيفيل” بدخولها إلى منطقة خارج نطاق عملها، وأن هذا الأمر ليس بريئاً بل هو مقصود لأهداف أمنية.
ليست هي المرة الأولى التي يحدث فيها صدام بين سكان في قرى تُعتبر معاقل لـ”حزب الله” وقوات “اليونيفيل”، إلا أن الحادث أو الهجوم على آليات الكتيبة الإيرلندية حصل في منطقة خارج عمليات “اليونيفيل” جنوب الليطاني، وأدى إلى سقوط قتيل وثلاثة جرحى، ويأتي بعد قرار مجلس الأمن الأخير في نهاية آب (أغسطس) الماضي والقاضي بالتجديد للقوات الدولية لعام إضافي، وإشارته إلى أن هذه القوات لا تحتاج إلى إذن مسبق للقيام بمهماتها، ولها حرية الحركة ضمن مناطق عملها، وهو أمر يعترض عليه “حزب الله”، ويواجهه من خلال تعرض السكان للدوريات الدولية.
هذا هو الحادث الأبرز والأخطر ضد قوات “اليونيفيل” منذ تجديد مجلس الأمن لها، وقد سبقته حوادث متفرقة في منطقة نطاق عمل القوات الدولية في منطقة جنوب الليطاني، تخللتها إشكالات ميدانية في عدد من القرى، وسُجل فيها تحطيم سيارات وآليات لـ”اليونيفيل” وجرح جنود ومصادرة أجهزة اتصال، وإن كان “حزب الله” ينفي في كل مرة علاقته بالموضوع، لكن الأمور على الأرض هذه المرة كانت بخلاف ما يعلنه، إذ إن إطلاق النار على دورية الكتيبة الإيرلندية ستكون له ارتدادات على عمل هذه القوات التي لم تغير من طبيعة مهماتها اليومية ولا وظيفتها، خصوصاً أن حادثة العاقبية تطرح الكثير من علامات الاستفهام حول الرسائل التي يريد “حزب الله” إيصالها إلى الجهات الدولية، وهو الذي يعتبر أن معظم معاقله هي بيئات خاصة ممنوع دخولها أو تجاوزها.
ولأن حادث العاقبية جاء خارج منطقة عمل قوات الطوارئ، وهي مسار تسلكه آليات “اليونيفيل” في الانتقال إلى المناطق الداخلية، فإن تبريره سهل باعتبار أنه خارج مهماتها، علماً أن دورية “اليونيفيل” تعرضت لإطلاق نار مباشر، وسط رواية تقول إن الآليتين ضلتا طريقهما عن القافلة، على خط الأوتوستراد بين مدينتي صور وصيدا في منطقة العاقبية، وكانتا في طريقهما إلى مطار بيروت الدولي، للمغادرة إلى إيرلندا. أما رواية بعض الأفراد في المنطقة فتقول إن الآليتين كانتا تدوران شمالاً وجنوباً بخلاف خط سيرهما الطبيعي عندما حصل الإشكال، ما دفع عناصر حزبية إلى إطلاق النار باتجاه الآليتين.
يأتي الحادث أيضاً بعد التوقيع على اتفاق الترسيم البحري، وموافقة “حزب الله” عليه واعتباره إنجازاً تاريخياً، ولعل الحزب يريد بعث رسائل غير مباشرة لتأكيد الفصل بين الترسيم البحري والبري، وتقييد عمل قوات “اليونيفيل” من خلال حصر مهماتها على الخطوط العامة من دون الدخول إلى القرى والبلدات التي تعتبر معاقل لـ”حزب الله”، ولذلك كان يرفض الأهالي دخول عناصر “اليونيفيل” أو تنقلهم في مناطق خارجة عن نطاق صلاحياتهم، وهم لا يقررون بأنفسهم إلا بالاستناد إلى تغطية الحزب لهم. وعلى هذا يؤكد “حزب الله” من خلال ممارساته أنه هو المقرر في بيئاته وصاحب الأمر الأخير في الجنوب اللبناني، ويمنع على أي قوة، بما فيها الجيش اللبناني، مراقبة حركته التي يُدرجها تحت غطاء المقاومة.
الحادث ستكون له انعكاسات دولية على الوضع اللبناني، خصوصاً في الجنوب، وهو سيفتح الجدل مجدداً حول دور القوات الدولية في ما يتعلق بتطبيق القرار 1701، لكن اعتبار “حزب الله” أن نشاط “اليونيفيل” في مناطق تعتبر محرمة عليها بقاموسه، يعني أنه يتهمها بالتجسس لمصلحة الاحتلال الإسرائيلي حول حركة سلاحه ونشاط مقاتليه، علماً أن الحزب الذي كان قد استنفر معظم قواته ووحداته قبل توقيع اتفاق الترسيم، ونشر نقاطاً جديدة على الحدود في مواجهة إسرائيل، لم يكترث لوجود القوات الدولية العاملة في المنطقة، وذلك على الرغم من أن “اليونيفيل” حافظت على النمط نفسه من عملها حتى بعد قرار مجلس الأمن التمديد لها، واستمرت دورياتها بمرافقة من الجيش اللبناني ميدانياً.
يسعى “حزب الله” في مناطق سيطرته جنوباً إلى منع إحداث أي تغيير في الواقع القائم، وينسحب هذا الأمر خصوصاً على عمل “اليونيفيل” بتحديد دورها وفقاً لمفهومه للقرار 1701، إذ يعتبر أن دخول هذه القوات إلى القرى والبلدات له استهدافات أخرى لكشف عناصر قوة “المقاومة”. ومنع تحريك الستاتيكو في مناطق نفوذه له اعتبارات محلية وإقليمية، فهو يتعرض لضربات في سوريا ولا يستطيع الرد انطلاقاً من حسابات إيرانية، خصوصاً أنه بعد اتفاق الترسيم ارتد إلى الداخل ويركز على إيصال رئيس ممانع أو حليف لهذا المحور، ويصر على عدم تقديم تنازلات في ملفات أخرى هو غير جاهز لها بالارتباط مع مرجعيته الإقليمية إيران.
وبينما نشهد توترات جديدة في المنطقة، خصوصاً بعد فشل المفاوضات النووية، يتقدم “حزب الله” إلى الهجوم المضاد انطلاقاً من التصعيد الإيراني الأخير، والذي تمثل بخريطة الطريق الأخيرة التي وضعها مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامئني للمنطقة، ومن بينها لبنان. وإذا كانت المنطقة قد دخلت في مرحلة توتر وصراع جديدين ومواجهات، فلن يكون لبنان بمنأى عنها، وهذا يعني “حزب الله” مباشرة والذي سيسير مع التصعيد الإيراني بتشدده في الملفات الداخلية اللبنانية واستعداده للمواجهة إذا سُدّت نهائياً آفاق المفاوضات النووية. لذا لا يمكن اعتبار حادثة العاقبية عابرة، كونها ترتبط بتوترات عدة تمس مهمات قوات “اليونيفيل”، ولا تمنح الجيش اللبناني القدرة على الإمساك بالمنطقة وتوفير الأمن وفق القرارات الدولية. وقد يصبح اتفاق ترسيم الحدود في خبر كان إذا حدث تصعيد إيراني – إسرائيلي، خصوصاً مع حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة، أو تحول لبنان مجدداً ساحة تصعيد إذا استعدت الاستراتيجية الإيرانية لذلك عبر نفوذ “حزب الله”.
لن تنتهي الحوادث المتعلقة بالقوات الدولية العاملة في الجنوب عند منطقة العاقبية، وقد يجد لبنان نفسه في ظل الفوضى القائمة والعجز عن التسوية بين الفرقاء وعدم القدرة على إنجاز الاستحقاقات الدستورية، أمام مرحلة من التصعيد والضغط الدوليين والعقوبات لن يتمكن البلد من تحملها ما لم يسارع إلى معالجة ذيول هذا النوع من الحوادث التي تصطدم بالمجتمع الدولي وتنعكس سلباً على أوضاعه.
نقلا عن “النهار”