احتلال أم تدخّل؟
محمد علي مقلد
ليست المرة الأولى التي يتم البحث فيها عن حلول لغوية لمسألة سياسية. خلال جلسات مؤتمر مدريد للسلام كرر وزير الخارجية السوري فاروق الشرع أكثر من مرة عبارة «الكرامة»، ما لفت نظر ممثلة الولايات المتحدة الأميركية فسألته عن معنى الكرامة وعن محلها من الإعراب في سياق البحث عن تسوية عنوانها الأرض مقابل السلام؟
في الفترة ذاتها وحين كانت الولايات المتحدة تشنّ حروبها بحجة مواجهة الإرهاب في أفغانستان أو في العراق انبرى من يطالب بعقد مؤتمر دولي لتعريف معنى الإرهاب. وخلال الفترة ذاتها زلّ لسان جورج بوش فأسماها حروباً صليبية، فقامت القيامة ضده حتى أرضى المحتجين باعتذار عن استخدامه العبارة المثيرة ودعاهم إلى الالتحاق بالمعركة ضد الإرهاب، والتحقوا.
منذ اتفاق الطائف وحتى اليوم ما زال الخلاف محتدماً على التسميات: احتلال سوري أم وجود أم تدخل أخوي؛ احتلال إيراني أم مساعدة أم نفوذ أم هلال شيعي. وفي مقابل الإجماع على أنّ الجيش الإسرائيلي هو جيش احتلال، لا يزال الصراع بكل أشكاله مندلعاً بين المقاومات اللبنانية والتنافس بينها قائماً على الشرعية النضالية ضد الاحتلالات.
آخر الابتكارات لحل أزمة الحوار برئاسة نبيه بري استبداله لغوياً بتشاور أو «لقاء» محتمل تحت إشراف المبعوث الفرنسي جان- إيف لودريان ونقل مكانه من قاعة البرلمان إلى أملاك السفارة. بين الحوار واللقاء والتشاور «يلعب الخيّال» والخيال الدوليان ليقنعا الحكام اللبنانيين بأنهم ليسوا أهلاً لإدارة شؤون البلاد.
غير أنّ الاستخفاف بقدرة المصطلحات على فعل ما فعلته يخفي جهلاً بوقائع التاريخ. مصطلح كروية الأرض أضرم حروباً في أوروبا توجتها ثورة فرنسا بتغيير وجه العالم. فكرة التوحيد، منذ لمح إليها الفرعون أخناتون، أحدثت انقلاباً في الاقتصاد والسياسة والفكر وأسست لحضارة الأديان السماوية. أتباع هذه الحلول يؤمنون بقدرة اللغة على اجتراح معجزات، ويتوهمون بأنّ اللعب على الكلام يبدل الحقائق. منذ ستين عاماً والقنيطرة تنتظر من يعيد بناءها فيما يحتفل النظام السوري سنوياً بانتصار مزعوم في حرب تشرين. النصر الإلهي يشحن المؤمنين غبطة مع أنّه أسس لانهيار مؤسسات الدولة. مع أنّ الاستبداد أكثر قدرة على التدمير من النابالم والكيماوي، فإنّ الولايات المتحدة أقنعت المجتمع الدولي بشرعية احتلالها العراق بعبارة «أسلحة الدمار الشامل» غير الموجودة، وزجت الأنظمة العربية في الحرب من خلال عبارة «الأرض مقابل السلام»، لكن، لا أرض أعيدت ولا سلام تحقق. الحلول اللغوية تشبه مخارج الطوارئ في الأزمات، لكنها سالكة بالمعنى النفسي وفي الأوهام. هي حلول في عقول مبتكريها فحسب. ألأننا ماهرون في الحروب اللغوية ترانا نتفوق على خصومنا بالكلام والخطابة؟ حين سئل أحدهم عما يعنيه بالخطاب «الحنجري» قال، إنه مليئ بالضجيج وخواء في المعنى. الحلول اللغوية والحروب الكلامية ليست من دون كلفة. ليس من بلاغة اللغة شحن النفوس ضد احتلال إيراني غير موجود أو ضد احتلال إسرائيلي موهوم، فهو يفضي إلى تنشئة جيل على المواجهة إمّا مع طواحين الهواء إمّا مع أهل الخندق الواحد، على غرار ما يجري في معسكر الفدراليين اللبنانيين أو في مخيمات الشتات الفلسطينية. وليست من البلاغة الدعوة إلى حوار أفضى في الماضي إلى تعطيل الدولة ويفضي اليوم إلى تدميرها.
حين يقتنع أبطال الحرب الأهلية أنّ الاستعانة بالخارج على أبناء الوطن، صديقاً كان الخارج أو عدواً ضرب من الخيانة، لا تعود التسمية حينئذ مسألة لغوية، ويصبح الحوار جزءاً لا يتجزأ من بناء الوحدة الوطنية.
نقلاً عن نداء الوطن