إيران واللعب على التناقضات
حسن فحص
عاد المفاوض الإيراني إلى فيينا، وعلى الفور بدأ سلسلة من الاجتماعات المكثفة مع ممثل الاتحاد الأوروبي، ومن ثم مندوبي المجموعة الدولية 4+1. الهدف منها وضع الدول المفاوضة في آخر مستجدات الموقف الإيراني من المفاوضات، ورغبتها في التوصل إلى نتائج نهائية تنهي الحالة القائمة، بخاصة في ظل الحديث في طهران عن الانتهاء من صياغة النص النهائي لورقة الاتفاق، وأن الجانب الايراني يرفض المماطلة في التوقيع، واتهامه للطرفين الأميركي والفرنسي بوضع العراقيل أمام الخطوة النهائية، في وقت كانت طهران تتهم واشنطن وعواصم الترويكا الأوروبية بممارسة ضغوط عليها باستخدام عامل الزمن وتحديد التوقيتات لها لاجباره على التوقيع السريع على الاتفاق الجديد. تحاول طهران في هذه الجولة من المفاوضات استثمار التطورات على الساحة الدولية من بوابة الأزمة الأوكرانية لتحسين شروطها في المرحلة النهائية من التفاوض، بخاصة أن الانقسام العمودي داخل المجموعة المفاوضة بات واضحاً بين معسكرين الأميركي الأوروبي من جهة والروسي الصيني من جهة أخرى، وقد عبّر عن هذا الانقسام موقف الخارجية الأميركية بتأكيد الحرص على استبعاد العقوبات والمقاطع عن المشاركة الروسية في المفاوضات النووية مع إيران، في حين يسعى الطرف الروسي ومعه الصيني لإحراج العواصم الغربية بضرورة الالتزام بتنفيذ الاتفاق وعدم عرقلة عملية الوصول إلى مرحلة التوقيع. المفاوض الإيراني عاد إلى فيينا وفي خلفية العودة، مواقف ذات طابع تصعيدي تلوّح طهران بامكانية اللجوء إليها في حال لم تجد استجابة لمطالبها من قبل الدول الغربية، على اعتبار أن هذه الدول ليست في الوضع الذي يسمح لها التمسك بمواقف متشددة مع إيران نتيجة تعقيدات الغزو الروسي لأوكرانيا، والحقائق السياسية والاقتصادية والجيوسياسية والاستراتيجية التي نتجت من ذلك، والتي تشكل فرصة للنظام الإيراني لفرض نفسه كنقطة توازن بين المعسكرين الشرقي والغربي، مستفيداً من حاجة كلا الطرفين له وما يمكن أن يلعبه من دور في قطاع الطاقة، إما سلباً بما يخدم روسيا في تصعيد أزمة إمدادات الطاقة لأوروبا، وإما بأن يساهم أوروبياً بتخفيف تداعيات ونتائج الحرب الروسية في أوكرانيا على قطاع الطاقة، بخاصة أن اسعار الغاز بدأت تأخذ مساراً تصاعدياً متسارعاً في اليومين الأخيرين، وما لذلك من آثار سلبية على اقتصادات هذه الدول. باقري كني، عاد من طهران، بعد سلسلة من اللقاءات التي عقدها في طهران مع الجهة المسؤولة عن المفاوضات بتكليف من المرشد الأعلى، أي المجلس الأعلى للأمن القومي. وهي لقاءات يفترض أن يكون باقري قد حصل فيها على رأي النظام من الخطوة السياسية النهائية تنقل المفاوضات إلى خواتيمها المطلوبة. التلويح بالتشدد الإيراني جاء من البرلمان الإيراني الذي أكد أنه لن يصوّت على الاتفاق النووي الجديد إذا لم يكن منسجماً مع القانون الذي سبق أن أقره النواب في نوفمبر (تشرين الأول) 2020 تحت عنوان “الدفاع عن المصالح الاستراتيجية الإيرانية وإلغاء العقوبات”. وهو موقف يأتي عشية الإعلان عن عودة باقري كني إلى فيينا وبعد جلسة جرت بين وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان ولجنة الأمن القومي والسياسية الخارجية في البرلمان، والتي تأتي كمحاولة برلمانية للوقوف على آخر مستجدات الموقف الإيراني في فيينا التي تمت مناقشتها في المجلس الأعلى للأمن القومي بمشاركة عبد اللهيان وباقري كني. طهران تتهم واشنطن باستمرار تمسكها برفض المطالب الإيرانية الثلاثة التي تمنع الانتقال إلى الخطوة النهائية، في المقابل رفعت طهران هذه الشروط إلى مستوى الخطوط الحمراء بالنسبة للنظام، لأن عدم إلغاء جميع العقوبات التي وضعت بعد عام 2018، والعودة الكاملة إلى تنفيذ بنود اتفاق عام 2015 في ما يتعلق بالعقوبات، إضافة إلى شرط الحصول على ضمانات بعدم تكرار تجربة الرئيس السابق دونالد ترمب، ومعها الحصول على فرصة للتحقيق من جدية تنفيذ قرار رفع العقوبات، كل هذه المسائل، تجعل من خيار عدم التوقيع على الاتفاق بالنسبة للنظام أقرب لاعتماده، من الذهاب إلى اتفاق لا يحقق الحد الأدنى من المطالب. في المقابل، عاد الحديث الإيراني عن دور سلبي للحكومة الفرنسية في المفاوضات النووية، بخاصة الاتهامات الإيرانية لباريس بممارسة ضغوط على الوكالة الدولية للطاقة الذرية لإبقاء أزمة التحقيق حول الأسئلة التي سبق أن وجهتها الوكالة الدولية لإيران منذ أكثر من عقدين حول طبيعة بعض الأنشطة النووية والاشتباه بأنها ذات أبعاد أو طابع عسكري. وأن طهران إضافة إلى الشروط التي وضعتها لإعادة إحياء الاتفاق النووي، فإنها ترى عدم جدوى التقدم في الاتفاق، ما لم تحل هذه الأزمة مع الوكالة الدولية وإقفال هذا الملف نهائياً بالتزامن مع الاتفاق. ويبدو أن التصعيد بوجه الدور الفرنسي يتخطى ما يجري في فيينا وأروقة الوكالة الذرية، ليصل إلى الدور الذي تلعبه باريس في الملفات الإقليمية التي تشكل مجال النفوذ الإيراني ومناطق الصراع في المنطقة، سواء من خلال التنسيق الكبير الذي تقوم به الحكومة الفرنسية مع الجانب الإسرائيلي الذي يعمل من أجل إفشال مفاوضات فيينا وعرقلة التوصل إلى اتفاق، والذي توظفه باريس من أجل الحصول على تنازلات إيرانية في العديد من الملفات الشرق اوسطية. ترى طهران أن المجموعة الدولية الغربية (واشنطن+ والترويكا) ليست في الوضع الذي يمكنها من التمسك بالشروط والسقوف العالية في مفاوضات فيينا نتجية انشغالها بالأزمة الأوكرانية، في حين أن الدول الشرقية (روسيا والصين) تزداد حاجتها لإحداث خرق في هذه المفاوضات على حساب المواقف الغربية، قد لا يكون الهدف منه تقديم خدمة لإيران بقدر ما هو إضعاف الموقف التفاوضي لهذه الدول بما يساعد في مفاوضات قد تبدأ لاحقاً حول أوكرانيا. سياسة دقيقة تقوم بها طهران، ما بين إعلان رفضها لمبدأ الحرب وتدمير البنى التحتية لأي دولة، وبين تحميل واشنطن مسؤولية الحرب الأوكرانية لإضعاف وتدمير خصومها، بحسب توصيف المرشد الأعلى للنظام، وفي الوقت نفسه محاولة توظيف ما يجري على الساحة الدولية لتحسين شروطها التفاوضية، وهي سياسة كمن يمشي في حقل من الألغام، على أمل أن لا ينفجر أحدها بوجهه أو تحت قدمه. نقلا عن “الاندبندتت العربية”