إيران وإسرائيل ونظرية العداء
علي الصراف
نظام الولي الفقيه، إذا كان لا يُعادي إسرائيل إلا من وجهة نظر يوم القيامة، فإنه لا يقدر على المواجهة أصلا. نظامه الدفاعي كله قائم على الصواريخ والميليشيات.
المواجهات غير المباشرة بين إيران وإسرائيل، لا تُخفي حقيقة أن الطرفين لا يريدان مواجهة مباشرة. ليس لأنها تنطوي على تكاليف، بل لأن المواجهة المباشرة يُفترض أن تنتهي إلى غالب ومغلوب، وهذا ما لا يريده أي منهما.
وهناك سبب لذلك، هو أن “المبيعات الجانبية” الراهنة لـ”نظرية العداء” بينهما سوف تسقط ليحلّ محلها السعي إلى إزالة الآخر.
توجّه الطائرات الإسرائيلية ضربات كل يوم تقريبا إلى الميليشيات التابعة لإيران في سوريا. والدافع الرئيسي لذلك هو أن إسرائيل لا تريد جبهة ميليشياوية جديدة توسع الجبهة مع حزب الله في لبنان. وسواء بقي الرئيس بشار الأسد، وهو مفيد، أم رحل، فإن إسرائيل تريد أن تبقى لاعبا مؤثرا في المعادلة السورية، على الأقل لأنها تريد أن تحافظ على احتلالها لمرتفعات الجولان، وتكريس ضمّها، إن لم يكن بالتراضي، فبحكم الأمر الواقع.
وإسرائيل كلها أمرٌ واقع. وهي لم تبن، على امتداد ثلاثة أرباع القرن، إلا عليه، إنها وجود من طابق واحد قائمٍ على الفرض والقوة. ونظرية العداء مع إيران توفر لها الآن الفرصة لكي تبني فوقه طابقا آخر.
تريد إسرائيل أيضا أن تجعل من مواجهة “التهديد الإيراني” مدخلا للانتساب إلى المنطقة. والدليل الوحيد المتاح لهذا المدخل حتى الآن، هو تلك الضربات الجوية لميليشيات إيران في سوريا، وأعمال التحرّش الطفيفة الأخرى، ومنها اغتيالات العلماء داخل إيران. وهذا كله لكي يُبقي أوار “العداء” قائما.
أما الانتساب إلى المنطقة نفسه، فهو هدف يقصد تحويل “الأمر الواقع” الإسرائيلي إلى شراكة في مواجهة “عدو واحد”. فهو يعزز مكانتها في المنطقة ويجعل من قبولها مبرّرا، ويمنحها دورا. وهذه “مبيعات جانبية” ثمينة.
ومثلما أن بناء كيان من طابق استراتيجي واحد استغرق ثلاثة أرباع قرن، فإن المنافع المنتظرة من بناء الطابق الثاني للوجود قد يستغرق مقدارا مساويا من الزمن.
والشراكات لا تُبنى على عجل. ولا تُؤتى ثمارها على عجل. وهو ما يعني أن الذين يريدون من إسرائيل أن تكون شريكا فعليا في حرب مع إيران سوف يضطرون إلى أن ينتظروا طويلا.
الإيرانيون الذين يتمددون في المنطقة انطلاقا من مشروع أيديولوجي، يهمّهم تماما، أن يبقى “العداء” قائما لتغذية دوافعهم الأيديولوجية. فمن دون مواجهة إسرائيل و”السعي إلى إزالتها من الوجود”، يسقط ما لا يقل عن نصف ذلك المشروع، ويتعرّى كمشروع طائفي ذي بُعد واحد، يستعدي المسلمين الآخرين فقط.
إيران تحتاج إسرائيل أكثر مما تحتاج إلى النفط، برغم أنه موردها الوحيد. لأنها قد تجد سبيلا للعيش من دون تصدير النفط، إلا أنها لن تجد سبيلا لتصدير الثورة من دون “العداء” مع إسرائيل. ليس في هذه المنطقة على الأقل، حيث شكل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ركنا ثابتا من أركان الضمير.
إيران تحتاج إسرائيل أكثر مما تحتاج إلى النفط لأنها قد تجد سبيلا للعيش من دون تصدير النفط، إلا أنها لن تجد سبيلا لتصدير الثورة من دون “العداء” مع إسرائيل
وعلى امتداد كل سنوات الحصار، فقد جربت إيران أن تعيش بلا نفط، ولكنها لم تستطع العيش من دون تسخين الكلام عن المواجهة المحتملة مع إسرائيل.
من لا يعرفون الثقافة الصفوية، أو منهاجها النظري في الحديث عن “إزالة إسرائيل من الوجود”، يُغشي الكلام على أبصارهم فيظنون أن الأمر حقيقيا، وأنه يحمل طابعا طارئا وعاجلا.
الحقيقة هي أنه مجرد “تسخين” لطبخة حصى، مؤجلٌّ أُكلها، إلى ما قبل يومٍ أو يومين من يوم القيامة.
إنها عداوة ذات طابع قدري أولا. وحسمها لن يأتي إلا عندما يأتي “المهدي المنتظر”. وهو ما يعني أن على الذين يصدقون وعود إيران بخوض معركة مباشرة مع إسرائيل، عليهم أن ينتظروا هم أيضا ذلك المهدي المنتظر.
نحن، إذن، إزاء “نظرية عداء”، ولسنا إزاء عداء ينطوي على تهديد فعلي.
يستطيع حتى الأعمى أن يلاحظ أنه ما مرّ أسبوع من الثلاثين عاما الماضية كلها، إلا وكان هناك حديث عن ضربة توجهها إسرائيل والولايات المتحدة لإيران، أو أخرى توجهها إيران لإسرائيل. ولا يفعل رئيس الأركان الإسرائيلي الحالي، سوى أن يكرر “النظرية” التي دأب عليها أسلافه. فالرجل “يبيع” ما باعه الذين سبقوه. بينما لا يفعل الولي الفقيه وغلمانه، سوف أن يرفعوا شعارات “الموت لأميركا، والموت لإسرائيل”، لأنهم من دونها ماذا سيفعلون؟
إسرائيل هي “عدة الشغل” لإيران، وإيران هي “عدة الشغل” لإسرائيل. والغاية الوحيدة من التحرشات الجانبية، هي المحافظة على سخونة الطبخة، وذلك حتى يُصبح الحصى جاهزا للأكل، يوم القيامة، أو قبله بقليل.
“المبيعات الجانبية” لنظرية العداء أو المواجهة بين إيران وإسرائيل سوف تتوقف، إذا ما اندلعت حرب فعلا. إسرائيل تعرف ذلك كما تعرفه إيران.
مثل أي حرب سبقها الكثير من التسخين الأيديولوجي، فإنها إما أن تنتهي بغالب ومغلوب، وإما بمعاهدة سلام.
الغالب، أيّا كان، سوف يخسر “مبيعاته الجانبية” كلها، ليضع على الطاولة أهدافا استراتيجية أكثر دواما. و”معاهدة سلام” سوف تفعل الشيء نفسه، بل ربما كانت أكثر ضررا عليه بكثير.
إسرائيل والولايات المتحدة لن توجّها ضربة لإيران إلا في إطار الاستعداد لحرب شاملة. وهذه الحرب لا بد وأن تنتهي بسقوط نظام الولي الفقيه.
وما يحاول بعضنا أن يقوله هو أن ذلك يقدم أفضل الخدمات الاستراتيجية للولايات المتحدة ولإسرائيل ولدول المنطقة في آن معا، كما أنه يُرسي أساسا لعالم جديد حقا، يقوم على التعاون والشراكة والتنمية، ويزيل ثقافة التناحر.
إلا أن القناعة لم تتوفر بَعد للأخذ بهذا الاتجاه. وما يحاوله رؤساء الأركان، هو أن يُعددوا الخطط ليقولوا إنهم “جاهزون”، ولكنهم مضطرون إلى أن يتركوا الأمر للسياسي الذي يجبي عوائد مبيعاته الجانبية من تلك الجاهزية.
نظام الولي الفقيه، في المقابل، إذا كان لا يُعادي إسرائيل إلا من وجهة نظر يوم القيامة، فإنه لا يقدر على المواجهة أصلا. نظامه الدفاعي كله قائم على الصواريخ والميليشيات. وهو يعرف أنه بينما لدى الطرف الآخر صواريخ أكثر دمارا وأكثر عددا، فإن غلمان الولي الفقيه ليسوا سوى كيانات هشة، وقابلة للتفتيت، بمجرد أن تنقطع عنها الموارد.
يقال في العراق “اللطم على الحسين، من أجل القيمة” (و”القيمة” مرق حمص مجروش ولحم). وهو ما يعني أن أولئك الغلمان سوف يكونون من بين أول مَنْ يفر من أرض المعركة.
ولقد حاربت إيران العراق لثمانية أعوام، ولكنها كانت حرب ضعيف لضعيف. ولكنّ حربا ضد الولايات المتحدة وإسرائيل ودول المنطقة الأخرى، لن تطول أكثر من ثمانية أيام.
الولي الفقيه يعرف ذلك. وهو يهدد بالحرب الشاملة، بقصد القول إنه إذا جاءه الموت، فإن الجميع يتعيّن أن يدفعوا الثمن.
وما لم تتوفر قناعات لكي تندلع حرب شاملة، فإن المبيعات الجانبية لـ”نظرية العداء” سوف تظل هي الشغل الشاغل لأمد طويل.
وليس الحديث عن “مواجهة”، هذه المرة، سوى أنه إضافة لأسبوع جديد، ما مرّ مثله على امتداد الثلاثين عاما الماضية، إلا وكان هو الحديث.
نقلا عن العرب