مقالات

إيران ما بعد نطنز: الربيع الدموي وازدهار الميليشيات!

يوسف الديني

استُهدفت منشأة نطنز النووية في إيران في عملية غامضة وسرية تصلح لأن تكون مدخلاً لفهم سلوك ملالي طهران في المرحلة المقبلة، باعتبارها الحديث الأكثر تأثيراً بعد تصفية قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني، التي كانت عملية مكشوفة في الهواء الطلق، بخلاف استهداف البرنامج النووي في توقيت تهرع فيه الولايات المتحدة لطبخة تفاوضية نيئة «خطة العمل الشاملة المشتركة»، وبشكل مرتبك لا يأخذ في الحسبان مسألة قدرة نظام طهران على المناورة وكسب الوقت، وتحويل المنطقة التي تسعى إلى صناعة الاستقرار والمستقبل والتعافي من تأثيرات الجائحة إلى ربيع مزدهر للميليشيات والأذرع العسكرية.
المفارقة أن جحيم هذه الميليشيات يستهدف استقرار وأمن الخليج والعراق بشكل أساسي، في حين تسعى الولايات المتحدة إلى طمأنة إسرائيل التي لا تتخلى عن منطقها الخشن والجذري في نقد التقارب مع دولة الملالي، وتسريبها بانتصارات استهداف القدرات النووية، وتقابل بالتأكيد من قبل إدارة الرئيس بايدن وعلى لسان مستشاره للأمن القومي جيك سوليفان، بالموقف الثابت للولايات المتحدة من مسألة أمن إسرائيل، وضمان عدم امتلاك إيران أبداً سلاحاً نووياً، من دون التعريج على مسألة أمن المنطقة والخليج بشكل واضح، وإرسال إشارات خاطئة وخطرة على تمكين طهران من خلق جحيمها الميليشياوي، واستهدافها المتكرر عبر أدواتها العسكرية، منها ميليشيا الحوثي الإرهابية للسعودية وأمن ممرات العالم المائية، إضافة إلى إفشال كل محاولات نهوض العراق من خلال انتعاش الأذرع الإيرانية المتمثلة في الميليشيات الخارجة عن منطق الدولة وسلطتها.
ما تفعله الولايات المتحدة اليوم أشبه بمنح صكوك الطمأنة والأمان لإسرائيل واتفاقيات التفاوض والصمت عن زيادة التخصيب لإيران والوقت للاثنين معاً، لمحاولة إنضاج طبخة سلام لا يمكن أن تهضمها المنطقة بسبب مكوناتها السامة، على رأسها «الميليشيات» التي أصبحت واقعاً متجذراً في التعبير عن سياسات ملالي طهران الخارجية، أو ما يمكن وصفه بدبلوماسية العسكرة والصواريخ والطائرات المسيرة.
هناك ما يشبه حالة تداخل اليوم بين هوية إيران كدولة وبين مكون الميليشيا في التعبير عن سياساتها، مع ارتباك كبير للمجتمع الدولي في قراءة هذه العلاقة، فالميليشيات اليوم هي أكبر من مجرد صنيعة نظام طهران أو المحظية برعايته لأسباب مرحلة، بل باتت جزءاً من بنيته ونسيجه وأسباب بقائه، ولا يمكن تصور العودة إلى منطق الدولة والتخلي عن فوضى الميليشيا.
فالميليشيات التي استنبتتها إيران في المنطقة، وإن كانت تعمل بشكل مخالف ومضاد بشكل كامل لمنطق الدولة، ليست مفهوماً فوقياً مفارقاً لبنية دولة الملالي، كما هو الحال مع جماعات العنف المسلح التي تولد بشكل ظرفي في مناطق التوتر والأزمات، كما نتذكر في أزمات البوسنة والشيشان، بل هي متجذرة في هوية المجتمعات التي دمرتها سياسات التدخل الإيرانية ومشاريعها في بناء دول داخل الدول الأساسية، كما هو الحال في لبنان واليمن وسوريا والعراق.
في اليمن بشكل أساسي ساهم ازدهار ميليشيا الحوثي في تدميره وتجريف هويته، وتحوله إلى مجرد نقطة استفزاز مستدامة لأمن السعودية والخليج والممرات العالمية للاقتصاد، فالتدخل الإيراني السافر واستنبات حالة العسكرة للحوثيين، وتحويلهم إلى مجرد بيدق ضد اليمن واليمنيين، ساهم في تأزيم الحالة السياسية اليمنية وتضاؤل فرص بناء شرعية يمنية تمثل جميع الأطراف والفاعلين تبنى على أساس المواطنة من خلال صيغة تصالحية وتوافقية مفصلة تمثل كل أبناء اليمن من أقصى جنوبه إلى شماله، إضافة إلى تحسين الحالة الاقتصادية عبر التحول إلى الاستثمار المستدام والاقتصاد، وليس مجرد انتظار المساعدات الدولية، بل على العكس، فإن الصمت المطبق على مشروع إيران في اليمن عبر ذراع الحوثي خلق حالة تدشين لازدهار الميليشيا عسكرياً وحتى اقتصادياً عبر خلق اقتصاد موازٍ قائم على تهريب السلاح والمخدرات وفرض الإتاوات على اليمنيين وإفقارهم.
انكشاف حالة التدخل الإيراني وأوهام المترددين حول نيات الميليشيات يثبت أن ازدهارها لا علاقة له بالسياسة وممانعاتها، بل هو خلق لحالة جديدة لكيانات عسكرية آيديولوجية عقائدية مسلوبة الإرادة لصالح إنعاش حياة دولة الملالي التي تعيش خناق العقوبات الاقتصادية وتردي الأوضاع في الداخل.
بمعنى آخر، فإن رهان الملالي الدائم هو على المناطق التي تغيب فيها قوة وقبضة الدولة ومنطقها، كما رأينا في لبنان، ونراه اليوم بشكل كبير في محاولة إفشال عودة الدولة في العراق، واستباحة اليمن، وذلك بقوة السلاح وفرض الأمر الواقع.
تدرك طهران تماماً أنها غير قادرة على الفوز بأي مغامرة أو مقامرة عسكرية في المنطقة، ولذلك تستثمر بشكل أساسي في الاستثمار في المناطق الرخوة في المنطقة وتحويلها إلى رساميل سياسية يمكن اللعب والتحكم فيها، ومنحها الحق في لعب أدوار تفاوضية أكبر، وهو ما خلق حالة من الفراغ السياسي الكبير يتحمل المجتمع الدولي والولايات المتحدة الجزء الأكبر من مسبباته، وأنتج لنا ربيعاً دموياً قانياً بسبب الميليشيات التي تحول مجموعات خارجة عن القانون عبر التحشيد والتجنيد إلى مجموعات مسلحة تابعة لإرادة «الحرس الثوري».
نظام ملالي طهران اليوم يختطف المشهد الإقليمي، ويستفز حالة الاستقرار العالمي عبر أدوات التشغيب السياسي والتلويح بالتخصيب في محاولة لتسويق الهدنة ورفع الحظر عنه والعقوبات الاقتصادية؛ لكنه يمارس دوراً تخريبياً على الأرض بخلق وصناعة وتفريخ الميليشيات، مستغلاً مناورة الملف النووي لكسب الوقت حتى تكبر براعمه السامة وتمنحه قبلة البقاء على قيد الحياة أطول وقت ممكن، لكنها لا يمكن أن تبقى لأنها تحمل في داخلها ملامح الموت، حيث العالم اليوم البقاء فيه ليس للأقوى فحسب وإنما للأكثر قدرة على الركض نحو المستقبل!

نقلاً عن “الشرق الأوسط”

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى