إيران… صراع الأقلية والغالبية
حسن فحص
مصادر ارتياح النظام والدولة العميقة مردها إلى أن هذه المنظومة استطاعت التخفيف من الأعباء والأثقال والأوزان السياسية والاجتماعية والدينية التي من الممكن أن تشكل تحدياً أو مصدر قلق على المسار الذي رسمته للوصول إلى المرحلة التالية.
بعيداً من كل الاعتبارات السياسية والأخلاقية والقيمية التي يمكن اللجوء إليها أو اعتمادها في محاكمة وتقويم انتخابات مجلس النواب وخبراء القيادة التي شهدتها إيران مطلع شهر مارس (آذار) الجاري، إلا أن الثابت الوحيد الذي يمكن التوقف عنده هو أن النظام والدولة العميقة أو منظومة السلطة ينظرون إليها بأعلى درجات الاطمئنان والرضا، وتحديداً عن الآلية التي اُعتمدت في التحضير للعملية الانتخابية والنتائج التي خرجت بها صناديق الاقتراع، والأشخاص الذين سيتولون مهمة إخراج المرحلة الانتقالية واختيار ولي الفقيه الجديد بعد غياب المرشد الحالي عن المشهد السياسي.
ومصادر ارتياح النظام والدولة العميقة مردها إلى أن هذه المنظومة استطاعت التخفيف من الأعباء والأثقال والأوزان السياسية والاجتماعية والدينية التي من الممكن أن تشكل تحدياً أو منافساً أو مصدر قلق وتشويش على المسار الذي رسمته هذه المنظومة للوصول إلى المرحلة التالية، وانتقال القيادة وتثبيت مشروعها ورؤيتها لتركيب مراكز القوى وتوزيع النفوذ في ما بينها.
إعادة إنتاج الطبقة السياسية والدينية التي تريدها المنظومة جاءت منسجمة مع المسار التصاعدي للتحولات التي بدأها النظام الإيراني منذ ما بعد استقراره وسيطرته على الأوضاع وإنهاء حالات الاعتراض، أو التعددية الحزبية والتوجهات المختلفة داخل تركيبته ما بعد عام 1983.
ومرحلة عدم الاستقرار والصراعات بين القوى الحاملة للثورة بمختلف توجهاتها لم تقتصر على الجانب الأمني والعسكري وحتى الانفصالي لبعض المكونات القومية في إيران، بل شملت أيضاً صراعاً ثقافياً وفكرياً وسياسياً حول طبيعة النظام الذي سيتولى السلطة ويمسك بمفاصل الدولة ومؤسساتها، إلا أن الانتقال الذي حصل في النظام الإيراني الذي جاء على أنقاض النظام الملكي الشاهنشاهي لم يكن متسقاً أو منسجماً مع الشعارات التي رفعتها الثورة قبل انتصارها، وقد ظهرت هذه التحولات الفكرية والثقافية والعقائدية مع بروز الجدل حول طبيعة التسمية للنظام الجديد، بخاصة بين المؤسس السيد الخميني ورئيس الحكومة الموقتة مهدي بازركان، وجوهر النظام “الجمهوري” الذي يريده كل من الطرفين، أي بين البعد الإسلامي الذي تمسّك به الخميني للجمهورية، و”الديمقراطي” الذي أصرّ عليه بازركان من دون استبعاد الإسلامية عنه، وهو التباين أو الاختلاف الذي أسس لخروج بازركان والقوى السياسية التي تحمل التوجهات ذاتها من المشهد السياسي.
وإذا ما كانت الثورة في إيران ضد النظام الملكي قد مثلت موقف غالبية الشعب والمجتمع الإيراني في مواجهة أقلية حاكمة ومتحكمة في مقدرات وقرارات البلاد على مختلف المستويات، وأن هذه الغالبية استطاعت فرض إرادتها وإنتاج التحول الذي نقل إيران من الملكية إلى الجمهورية، فإن المسار الذي اتخذه النظام الإيراني بعد استقرار الأمور بيده، وسياسات التخلص أو استبعاد القوى السياسية المختلفة أو المعارضة لتوجهاته وعقائده السياسية والدينية، لا يختلف كثيراً في عمق تركيب السلطة وآليات الحكم عن المسار الذي كان سائداً في العهد الملكي، فالانتخابات الأخيرة التي خلعت فيها منظومة السلطة والدولة العميقة كل الأقنعة وكشفت عن حقيقة مشروعها، نقلتها وبإرادة وقرار منها كي تكون ممثلة لأقلية واضحة في مواجهة غالبية رافضة أو معترضة لما هو قائم على مستوى السلطة بكل مستوياتها الفكرية والعقائدية التي نقلت التجربة التي بدأت قبل أربعة عقود ونيّف، من حال شعبية شاملة إلى حال أقلوية لا ترى أهمية أو دوراً فعلياً وحقيقياً للحامل الشعبي لمشروع الدولة والنظام، سوى في الكشف من خلال صناديق الاقتراع عن الشخص أو الشخصيات التي تنسجم مع أطروحة هذه المنظومة.
أما في البعد الاقتصادي فإن الافتراق أو الانقسام بين هذه المنظومة والقاعدة الجماهيرية أو القوى السياسية التي من المفترض أن تكون شريكة في المشروع، بات عميقاً لدرجة قد يكون من الصعب ترميمه نتيجة الفشل المتراكم في إدارة الشؤون المعيشية والحياتية للمواطن، وترجيح السلطة لفئات خاصة في إطار نظام مصالح تخدم رؤيتها ومشروعها، وما يستتبعه ذلك من السكوت أو التغاضي عن الفساد الممنهج وترك المحاسبة أو العمل على تسويات تصب في استمرار التخادم بينها وبين هذه الفئات، على حساب مصالح الشعب والبلاد.
وعلى رغم ما تحمله سياسة الإقصاء والاستبعاد التي اعتمدها النظام، وما تنتجه من تنميط للحياة السياسية، وبالتالي إلغاء وتهميش الحيوات الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي يزخر بها المجتمع الإيراني، وجعل الولاء أو البعد مما تريده منظومة السلطة الميزان في تحديد الجماعة التي تحمل صفة الوطنية، ثم تضييقها إلى الحد الذي تقتصر في تعريفها على الجماعة أو الفئة التي تؤمن وتعتقد بصوابية ونهائية وحتى قدسية مشروع السلطة، وتدافع عنه وتقاتل من أجله بما يمثله من منظومة مصالح مشتركة بينها، فإن هذا المسار يختزن في دواخله إمكانية عالية للانفجار، بخاصة أن المسار الذي اعتمدته هذه المنظومة في التعامل مع حالات الاعتراض على مدى العقود الماضية وعدم الاكتراث بالرسائل التي حملتها، قد تدفع الأمور الى نقطة اللاعودة.
الأحداث التي شهدتها إيران في سبتمبر (أيلول) 2022 إثر مقتل الفتاة مهسا أميني، وما نتج منها من انقسام ثقافي وفكري عمودي وحاد بين جماعة النظام والسلطة، هي أحداث تختلف في جوهرها عن الحركات الاعتراضية السابقة ذات الأبعاد الاقتصادية والمطلبية، وكان من المفترض أن تشكل جرس إنذار لمنظومة السلطة لإعادة النظر في عملية الفرز التي مارستها تجاه الآخرين، والسعي إلى التخفيف من حدة الانقسام أو عدم الدفع بالغالبية المعترضة أو المعارضة للذهاب إلى مواقف أكثر راديكالية، إلا أن هذه المنظومة لم تقرأ أو لم ترد قراءة هذا المتحول، انطلاقاً من شعورها بعدم الحاجة إلى العودة للحاضنة الشعبية أو الحوار معها، مكتفية ومشبعة بما تملكه من قوة وسلطة سياسية ومالية واقتصادية وأمنية وعسكرية توفر لها دائرة الأمان التي تدافع عنها، وبالتالي الشعور بالقدرة على مواجهة أو قمع أية حركة احتجاجية أو انفجار قد يحدث مستقبلاً.
نقلا عن إندبندنت عربية