إيران التي تغيرت!
حسن فحص
أسئلة كثيرة تثار حول الدوافع التي أجبرت النظام الإيراني على التخلي عن صبره الإستراتيجي والانتقال إلى التدخل المباشر في الأحداث التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، فبعد دخول الفاعل اليمني ممثلاً في جماعة “أنصار الله” الحوثية على المشهد الإقليمي، يمكن القول إن النظام الإيراني استطاع استكمال حلقات ودوائر موقعه وخريطة نفوذه الإستراتيجية في الإقليم، بخاصة أن صعود جماعة الحوثي والانقلاب الذي قامت به على سلطة الرئيس علي عبدالله صالح منح إيران نفوذاً مهدداً على الخاصرة الجنوبية للسعودية، إضافة إلى منح طهران نفوذاً وإشرافاً واضحاً على مضيق باب المندب، وإشرافاً على حركة الملاحة في البحرين الأحمر والعربي، مما يعني القدرة على تهديد الملاحة الدولية وطرق التجارة العالمية والممرات الحيوية لمصادر الطاقة إلى الأسواق العالمية.
وقد ظهرت تأثيرات هذا النفوذ في العلميات التي تقوم بها جماعة الحوثي ضد السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية، والتي أدت إلى إعلان شركة ميناء إيلات إفلاسها وخسارة مصر أكثر من 6 مليارات دولار من عائدات قناة السويس خلال العام الماضي.
الدخول اليمني ضمن دوائر النفوذ الإيراني الإقليمي وتحوله إلى جزء من الإستراتيجية الإيرانية جاء استكمالاً لما بدأ منذ عام 2000 وتحرير الجنوب اللبناني، وبعد تحويل لبنان إلى رأس حربة لهذا المشروع، بخاصة بعد حرب يوليو (تموز) 2006 بين “حزب الله” وإسرائيل، والتي كانت بمثابة اختبار ميداني للقدرات الحربية الإيرانية وإمكان تطويرها وتحويلها إلى نقطة ارتكاز للطوق أو “قوس النار” الذي أقامته طهران لمحاصرة تل أبيب، وكان الهدف منه قطع الطريق على أية تسوية أو معادلات جديدة قد تفرضها الولايات المتحدة من أجل التوصل إلى حلول وسلام في الإقليم على حساب المصالح الإيرانية.
هذا القوس تعرض لاختبار حقيقي وتحد خطر عام 2017 خلال الاستفتاء الذي أجرته حكومة إقليم كردستان للانفصال عن الحكومة الاتحادية وإقامة دولة كردية مستقلة، من المفترض ألا تقتصر في المستقبل على الإقليم العراقي بل تشمل المناطق الكردية في كل من سوريا وتركيا وإيران، في إطار كردستان الكبرى.
ورأت طهران أن الخطوة الكردية جاءت بدعم واضح ومباشر من تل أبيب في إطار سعيها إلى إقامة “قوس نار” إسرائيلي على الخاصرة الغربية لإيران، وتهديد أمنها القومي واستقرارها الداخلي، ومن هنا كان رد الفعل الإيراني على الاستفتاء كبيراً وقاسياً، ولم يقف عند حدود إفشال الاستفتاء بل استتبعته على مدى الأعوام الماضية باستهداف الإقليم بحجة وجود مقار ومراكز تابعة لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد)، واستخدام أراضي الإقليم لاستهداف العمق الإيراني وضرب قاعدة إستراتيجية للطيران المسير في محافظة كرمنشاه الإيرانية، فضلاً عن بعض العمليات الأمنية التي حصلت في الداخل الإيراني ضد أهداف نووية.
وقد تعاملت طهران مع النشاط العسكري الإسرائيلي ضد المواقع والمراكز التابعة لقوات “حرس الثورة” المنتشرة على الأراضي السورية بما يسمى “الصبر الإستراتيجي”، ومحاولة استيعابه كرد فعل على حجم التهديد والتحدي الذي تشعر به تل أبيب من توسع النفوذ والتأثير الإيراني في الإقليم، على حساب دورها ونفوذها.
وعلى رغم حجم الخسائر التي لحقت بمستشاريها العسكريين جراء الضربات الإسرائيلية لكنها تعاملت معها ببرود وعدم انفعال، أو الانسياق وراء الاستفزاز الإسرائيلي الذي يسعى إلى تطويره لصراع مباشر، في حين استمرت في تعزيز قدرات حلفائها وتطوير ترسانتهم العسكرية ليكونوا خط الدفاع الأول في حال دخل المحور الذي تقوده في صراع أو حرب مع إسرائيل، ولذلك عملت بالتوازي، مع تعزيز قدرات “حزب الله” في لبنان، على تعزيز القدرات العسكرية لحركتي “حماس” و”الجهاد” الفلسطينيتين تسليحاً وتدريباً داخل قطاع غزة.
ومع إعلان “حماس” عملية “طوفان الأقصى” سعت طهران إلى إبعاد نفسها عن المسؤولية المباشرة عن توقيت هذه العملية، مع تمسكها بالدعم السياسي والمالي والتسليحي، وهو الموقف الذي قبلت به واشنطن في محاولة لإبقاء المنطقة بعيدة من حرب شاملة ومفتوحة، وأيضاً من أجل الحفاظ على قنوات التواصل بينها وبين طهران من أجل التفاهم على حلول سياسية للأزمة المتفجرة.
والأمر نفسه بالنسبة إلى طهران من خلال محاولتها الضغط من أجل التوصل إلى اتفاق حول وقف إطلاق النار في غزة، وما يعنيه من فرض انسحاب كامل وتام من أراضي القطاع في إطار حل سياسي شامل، والذي يمثل في حال فرضته واشنطن على تل أبيب هزيمة للمشروع الإسرائيلي وحكومة بنيامين نتنياهو.
التطورات المتسارعة التي شهدتها تداعيات حرب غزة، بخاصة الضربة التي قامت بها المقاتلات الإسرائيلية ضد القسم القنصلي للسفارة الإيرانية في العاصمة السورية دمشق مطلع أبريل (نيسان) الماضي، ومقتل عدد من كبار جنرالات “حرس الثورة”، ومن بعدها عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، وما تعنيه من انتهاك للسيادة والأمن القوميين، ثم اغتيال الأمين العام لـ “حزب الله” في لبنان حسن نصرالله في الـ 27 من سبتمبر (أيلول) الماضي، وضع إيران في موقف دقيق وحساس لم يسبق أن واجهت مثله خلال أعوام صراعها المفتوح والمتعدد المستويات مع تل أبيب، فاغتيال نصرالله كان بالنسبة إلى طهران استهدافاً لرأس مشروعها الإقليمي مما قد يجعل طهران مكشوفة أمام أخطار جديدة ومباشرة ربما تعيد رسم المعادلات الإقليمية على حساب مصالحها، بخاصة أنها في المراحل السابقة كانت لا ترى ضرورة لأي نوع من التدخل المباشر طالما أن القوى والفصائل التي عملت على إنشائها في الإقليم قادرة على لعب دور “الدرع الواقي”، وهو ما ساعد في تعزيز سياسة “الصبر الإستراتيجي” وتوظيف هذه القوة وما تحقق من إنجازات ومكاسب على طاولة التفاوض مع القوى الدولية، والعمل على ترجمته مكاسب سياسية وإستراتيجية بعيدة المدى.
ومن هنا يمكن اعتبار الهجومين الصاروخيين ضد العمق الإسرائيلي اللذين قامت بهما إيران رداً على استهداف القنصلية واغتيال هنية ونصرالله، بمثابة نقلة نوعية في الإستراتيجية الإيرانية، وتخل عن مبدأ الصبر الذي مارسته في السابق، لشعورها بأن الأمور وصلت إلى مستوى معركة الوجود والمصير، وبالتالي بات عليها إدخال تعديلات جوهرية على عقيدتها القتالية والعسكرية، وهذا التعديل على العقيدة قد يجد ترجمته في الإستراتيجية التي أعلنها المرشد الأعلى قبل أسبوعين خلال صلاة الجمعة، من أن إيران لن تتردد في الرد على أي اعتداء عليها، لكنها في الوقت نفسه لن تتسرع في رد الفعل، وهو ما تلقفته المؤسسة العسكرية وترجمته الإدارة الدبلوماسية بالحديث عن سقوط كل الخطوط الحمر في حال أقدمت إسرائيل على استهداف العمق والمصالح الإيرانية، وهو ما يعني في ترجمته العملية استعداد طهران للرد المقابل وتوسيع دائرته في حال اُستهدفت منشآتها الحيوية النووية والنفطية، وأيضاً إمكان التخلي عن عقيدتها النووية والانتقال إلى التصنيع الحربي والإعلان عن أول تجربة تفجير نووي، ومحاولة فرضها كأمر واقع يعزز شروطها على طاولة التفاوض مع المجتمع الدولي والإقليمي.
نقلا عن اندبندنت عربية