أهم الأخبارمقالات

إيران… التفاوض مع واشنطن شرط بقاء النظام

 

حسن فحص

القراءة الأقرب إلى العقلانية داخل الإدارة الأميركية تقول إن أية عملية عسكرية أو ضربات جوية وتدمير المنشآت النووية والعسكرية وحتى الاقتصادية لن تنتهي بسقوط النظام الإيراني والقضاء عليه، وإن الوصول إلى هذا الهدف لا يمكن أن يحصل من دون معركة برية تستدعي إنزال قوات أميركية على الأراضي الإيرانية وخوض معركة مباشرة مع قواتها المسلحة، وإلحاق هزيمة قاسية وقاضية بها على غرار ما حصل في أفغانستان والعراق، مما يعني أن على واشنطن في المقابل أن تكون مستعدة لاستيعاب تداعيات الخسائر البشرية في صفوف قواتها بمواجهة القوات الإيرانية التي تمتلك قدرات قتالية عالية، ولم تفقد روح المواجهة أو القدرة عليها كما حصل مع الجيش والقوات المسلحة العراقية.

وفي ظل استبعاد العملية البرية من حسابات المواجهة، في الأقل بالمدى المنظور، فإن قيادة النظام الإيراني ورغم عدم رغبتها بالوصول إلى نقطة اللاعودة في هذا التصعيد القائم، لا ترى في أية عملية عسكرية “جوية” ضد النظام في حال حصولها خطراً وجودياً على استمراره بالحياة والإمساك بالسلطة في إيران. وهو ما اعترفت به واشنطن أيضاً بشكل غير مباشر، باعتبار أن أية ضربة جوية تهدف إلى إضعاف النظام وإجباره على الجلوس إلى طاولة التفاوض بالشروط التي تحددها، والتخلي عن كل طموحاته الإقليمية والنووية والصاروخية، أو أن يكون مصدر تهديد للأطراف الأخرى في الجوار الإقليمي، وتحديداً إسرائيل، ومن ثَم تحويله إلى ما يشبه “عود الكبريت” الذي لا خطر منه.

في المقابل، ترى قيادة النظام أن مصدر الخطر الحقيقي على النظام واستمراره يكمن في عدم استقرار الأوضاع الداخلية وحصول حال من الفوضى والصراعات القومية والمطلبية على خلفية اقتصادية ومعيشية، وهو خطر قد يأخذ شكل التهديد الحقيقي في حال اقترن بتدخل خارجي أو ضربة جوية. وقد عبر المرشد الأعلى للنظام بوضوح وللمرة الأولى بهذه الصراحة عن الخطر الداخلي وربطه بمؤامرة خارجية تسعى إلى تحريك الحساسيات القومية والمناطقية والمطلبية التي تساعد في تحقيق الهدف بإسقاط النظام.

والمرشد ومعه قيادة منظومة السلطة، يعتقد أن أية عملية عسكرية من الخارج ضد إيران لن تكون قادرة على إطاحة السلطة والحكم الإسلامي، بخاصة أن الرؤية الأيديولوجية للمرشد حول مفهوم “البقاء” والاستمرار تختلف عما تعتقده أو تسعى إليه الدوائر الأميركية أو المعادية لإيران. باعتبار أن العمل العسكري الخارجي سيسهم في تعزيز الوحدة الداخلية، ولن يؤدي إلى سقوط السلطة والقضاء عليها، وهو ما يحقق شرط “البقاء” ويعطي القيادة المسوغ للحديث عن “انتصار” في مواجهة الأعداء، بصرف النظر عن حجم الخسائر والأضرار البشرية والمادية والاقتصادية والعسكرية التي ستنتج من هذه المواجهة.

وليس ثمة تحامل أو افتئات على هذه القراءة الأيديولوجية لمفهوم البقاء والاستمرار، فالمرشد الأعلى قدم لهذه القراءة في أكثر من خطاب خلال الأشهر الأخيرة عند حديثه عن الحروب التي خاضها كل من حركة “حماس” في قطاع غزة و”حزب الله” في لبنان، عندما عد أن مجرد بقاء الاثنين في المشهد السياسي على الساحتين الفلسطينية واللبنانية “انتصار لهما”، وأن “النكسة” التي لحقت بهما وبقدراتهما العسكرية والسياسية والاجتماعية لن تؤدي إلى خروجهما من المشهد، بل تؤكد “بقاءهما” واستمرارهما في حمل شعار “المقاومة” والتصدي للطموحات الإسرائيلية.

أما في المسألة السورية، فإن المرشد الإيراني يعتقد أن ما حققه الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد على مدى العقد الماضي من صمود، يعد انتصاراً لأنه استطاع البقاء والاستمرار، والانهيار الذي حصل إنما كان نتيجة عدم استماعه للنصائح الإيرانية بضرورة الإصلاح الداخلي.

هذه القراءة لمفهوم البقاء، التي تنطلق من الأيديولوجيا، تنظر إلى الخسائر البشرية والاقتصادية والعمرانية باعتبارها شرط وضريبة الوصول إلى الانتصار وهزيمة العدو وأهدافه التي تسعى إلى لقضاء على “القوى المقاومة” وإخراجها من المعادلات السياسية والاستراتيجية، ما دام المنتصر يملك القدرة على إعادة الإعمار والتعويض عن الخسائر التي لحقت بالجماعة التي ينتمي إليها وتشكل حاضنته الشعبية.

صياغة أو إعادة تعريف المفاهيم السياسية بما ينسجم مع البعد العقائدي والأيديولوجي، تدخل في صلب صلاحيات المرشد الأعلى، وهي لا تقتصر على إعادة تعريف مفهومي الهزيمة والنصر، أو البقاء والانهيار، بل تنسحب أيضاً على مفاهيم مثل التفاوض والمصالح القومية والوطنية، وحتى في إعادة صياغة العناوين الثانوية الخاصة بمبدأ الاجتهاد الفقهي والانتقال من حكم شرعي إلى آخر، أو تعطيل حكم وتطبيق غيره.

وهذه الليونة في تقديم صياغة جديدة للمفاهيم، يبدو أنها هي الحاكمة اليوم على مواقف المرشد الإيراني الذي يقود دفة العملية السياسية المرتبطة بالتفاوض ومواجهة التصعيد والتحديات الداخلية والخارجية. إذ من الصعب على الحكومة الإيرانية بقيادة الرئيس مسعود بزشكيان الامتناع عن إصدار مراسم تطبيقية لقانون الحجاب والعفاف لو لم تحصل على غطاء شرعي من المرشد باعتباره ولياً للفقيه والحاكم الشرعي المطلق، كون هذا القانون يدخل في صلب صلاحياته الدينية والعقائدية.

وانطلاقاً من كونه المعني الأول ببقاء النظام واستمراره، وأن مبدأ الحفاظ على هذا النظام يتقدم على كل الأولويات الدينية والعقائدية لما يشكله استمرار النظام من استمرار للسلطة الدينية ومؤسستها، فإن من السهل عليه تدوير زوايا المواقف ذات السقف المرتفع التي يتخذها في مرحلة من المراحل بكثير من الليونة والبراغماتية.

من هنا يمكن فهم التمسك الذي يبديه النظام بعدم رفض مبدأ التفاوض مع الإدارة الأميركية والرئيس دونالد ترمب، واعتماد مخرج التفاوض غير المباشر والبناء على نتائجه وما يمكن أن تقدمه من قدرة على إعادة بناء الثقة بين الطرفين، بحيث تسمح بإحداث تحول جذري في العلاقة المتوترة بينهما، لا تقتصر فقط على الانتقال إلى التفاوض المباشر، بل إلى ما هو أبعد من ذلك، بما فيه تطبيع العلاقات وفتح الباب أمام استثمارات اقتصادية ومالية أميركية في مشاريع البنى التحتية التي يتعطش لها الاقتصاد الإيراني. ومن ثم تقدم المسوغ الشرعي للمرشد والمنظومة السلطة باعتبار التفاوض شرطاً وجودياً لبقاء النظام واستمراره.

نقلاً عن اندبندنت عربية

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى