إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها
حازم صاغية
أسوأ ما يصيب القضايا وحروبها، عادلةً كانت أم غير عادلة، أن تتحوّل أفخاخاً لأصحابها، بحيث لا يستطيعون كسبها في مدى زمنيّ معيّن ولا يستطيعون، في المقابل، مغادرتها وطيّ صفحتها. هكذا يقعون أسرى الحرب للحرب، والقضيّة للقضيّة، فيما يغدو استنزاف الموارد وتبديد العقل حصيلة مؤكّدة.
النظام السياسيّ، متى كان ضعيف الشرعيّة، غلبَه الميل إلى عزف على هذا الوتر علّه يُكسبه الشرعيّة التي يفتقر إليها. لكنّ الأمر لا يلبث أن يتحوّل إلى عقيدة مقدّسة يعجز النظام الذي أسّسها عن التحكّم بها. هنا تقع الأمّة في فخّ القضيّة بدل أن تكون القضيّة رافعة لقوّة الأمّة.
اللعبة تغدو، والحال هذه، أكبر من اللاعب.
حيال هذه القضايا وقد صارت أفخاخاً تتراجع أهميّة الحق واللا-حق، إذ تستقلّ القضيّة – الفخّ بذاتها، بمعزل عن أصولها الواقعيّة، وبدل أن يقودها العجز عن الانتصار إلى المراجعة، فإنّه يقودها إلى التحجّر والتثبّت المَرضيّ. ومقابل نقص البراهين الراهنة التي تعد صاحبها بالنصر، أو تجعل النصر احتمالاً ممكناً، تُلحّ الاستعانة بالماضي، فعليّاً كان أم مؤسْطراً. فهي تضمن البقاء في الفخّ عبر ردّ كلّ جديد نواجهه إلى ما سبق أن واجهناه وانتصرنا فيه أو تراءى لنا ذلك. وهذا، في السياسة، إنّما ينسج على منوال التعاطي الأصوليّ المعروف مع ظهور اكتشاف علميّ جديد إذ يقال إنّنا سبق وامتلكناه في زمن مضى أو نصّ قديم.
ألمانيا، في مطالع القرن العشرين، عصفت بها قضيّة ما لبثت أن صارت فخّاً للألمان: إنّها تريد حصّتها «العادلة» من المستعمرات على النحو الذي يساوي ما غنمه البريطانيّون والفرنسيّون. الأمر انتهى بها إلى الحرب العالميّة الأولى وإلى هزيمتها المدوّية. تكرّر الأمر على نحو أشدّ فجائعيّة في وقت لاحق: صار الردّ على صلح فرساي المهين وعلى الانهيار الاقتصاديّ سبباً لرفع النازيّين إلى سدّة السلطة، وكانت المحرقة والحرب العالميّة الثانية ودمار ألمانيا ثمّ تقسيمها إلى دولتين متخاصمتين.
قضايا مُحقّة وقضايا غير مُحقّة أو متفاوتة في حقّيّتها قد يتلقّفها هذا المصير. في روسيّا بزعامة فلاديمير بوتين وفي تركيّا بزعامة رجب طيّب إردوعان شيء من هذا: شعور بالاستضحاء مبالَغ فيه وطلب للعظمة لا تدعمه معطيات الواقع. في هذه الغضون، يتعاظم التخبّط بالأزمات والتدخّلات والحروب الصغرى كما تزداد الحياة السياسيّة وَهَناً وضموراً فيما تتردّى صورة البلد في العالم.
عربيّاً، لم يكن أسوأ وأخطر من قيام إسرائيل في 1948 سوى تحوّل الردّ عليه إلى قضيّةٍ – فخٍّ للفلسطينيّين وللعرب المحيطين بفلسطين: حرب بعد حرب وهزيمة بعد هزيمة وتبديد للموارد وتعطيل للحياة السياسيّة وإيجاد مُسوّغات للقمع وتفسيخ للمجتمعات، فضلاً عن تعليق حياة الأفراد الفلسطينيّين وتجميدها. لكنّ هذا كلّه لم يكفِ لأن يعطي مراجعة هذا النهج جاذبيّةً شعبيّة. وبسبب عمق الفخّ، لا تزال الطاقة السحريّة لـ «المقاومة» تُعيي مَن يداويها.
لقد ظهر قادة حاولوا ردع قضاياهم عن التحوّل إلى أفخاخ وردعَ شعوبهم عن الوقوع فيها. ما اقترحه الرئيس التونسيّ الحبيب بورقيبة في خطاب أريحا الشهير عام 1965 كان من هذا القبيل. تندرج في الوجهة نفسها موافقة الجنرال شارل ديغول على استقلال الجزائر الذي تمّ في 1962 ضدّاً على آيديولوجيّة «الجزائر الفرنسيّة». الأمر ذاته أقدم عليه اسحق رابين في اتّفاق أوسلو عام 1993. ديغول واجه محاولتي انقلاب عليه ومحاولات اغتيال عدّة. رابين اغتيل. بورقيبة شُهّر به ولا يزال يُشهّر.
النظام الإيرانيّ اليوم لا يفعل إلاّ هذا: تحويل القضيّة النوويّة إلى عقيدة شعبيّة مقدّسة، لا يهمّ مدى توافقها مع قدرات إيران الاقتصاديّة، أو مع حاجاتها التنمويّة، أو مع موقع البلاد في توازنات القوى الدوليّة، أو مع احتمال جعل المنطقة كلّها مساحةً للتخصيب وللاستيراد النوويّين. أمّا أن يُقتل على هذا المذبح كبير قادتها العسكريّين وكبير علمائها وأن تُضرب منشأتها النوويّة الأولى فتلك تفاصيل لا تستوقف المعنيّين بالأمر.
واليوم، حتّى لو نجحت إيران في رفع العقوبات الأميركيّة التي بات يصعب عدّها، ومعها العقوبات الأوروبيّة، وهو موضوع معقّد وملتبس، يبقى العقاب الأكبر لإيران وقوعها في هذا الفخّ – فخّ القضيّة. فالنظام الذي يعتبر وقف الحروب شبيهاً بـ «تجرّع السمّ»، وفق العبارة الشهيرة للخميني، والذي صلّب نفسه وأعاد تأسيسها على قاعدة حرب الثمانينيّات مع العراق، يتطلّب القضيّة – الفخّ شرطاً للبقاء. وهكذا يلوح الخروج من الفخّ مدخلاً إلى سقوط النظام، بالمعنى الذي قيل فيه إنّ موافقة حافظ الأسد على السلام تعني إطاحته. أمّا أن يكون سقوط هذا النظام مدخلاً إلى خروج الإيرانيّين من الفخّ فهذا أقرب إلى تحصيل الحاصل.
*نقلاً عن “الشرق الأوسط”