يغيب ويظهر بين نهارٍ عراقي وليلٍ إيراني
ما لا يتوقعه أحد أن يعود مقتدى الصدر إلى حظيرة النظام السياسي. ربما سيقبل على مضض بعودة مجلس النواب إلى الانعقاد بطريقة مرتبكة ولا تشي بأي نوع من الثقة. تلك هزيمة سيعتبرها موقتة. غير أنه سيمتنع عن الموافقة على تعيين رئيس وزراء يسميه خصومه محايداً وهو ليس كذلك بالنسبة إليه ولن يرضى بتلك السنة التي هي عبارة عن هدنة لإجراء انتخابات تشريعية جديدة كان قد طالب بها في وقت سابق.
لا أعتقد أن الصدر سيعود إلى مفاوضات مع خصومه يعرف أنها يائسة إلا إذا استجابوا لشرطه في حل مجلس النواب فوراً. ذلك لن يحدث خصوصاً أن المحكمة الاتحادية رفضته. لذلك فإنه سيعتبر كل ما يتخذه مجلس النواب غير شرعي ويعود إلى تحريض أنصاره. لكنه هذه المرة لن يدفعهم إلى الاقتراب من المنطقة الخضراء أو الصدام المسلح مع “الحشد الشعبي”، بل إلى تعطيل عمل الدولة من خلال العصيان المدني. أنصار الصدر ليسوا فقط عاطلين من العمل وباعة جوالين وكسبة وعمالاً موقتين، بل هم أيضاً أطباء ومهندسون ومحامون ومعلمون ورجال أعمال وتقنيون وموظفون في مختلف المجالات. سيكون الصدر من خلالهم قادراً على تعطيل عمل الدولة. ذلك هو الجزء المؤجل من الفوضى العراقية.
ورقة أخرى على الطاولة
حين اعتزل آية الله كاظم الحائري العمل الديني ودعا الصدر إلى الانتقال بمرجعيته إلى علي خامنئي ظن البعض أن اختفاء المرجع الديني الذي يقلّده الصدر وأتباعه سيؤدي إلى إضعاف التيار الصدري سياسياً. كانت تلك محاولة ضغط إيرانية جديدة يحذر الصدر في التعامل معها ورد عليها بالتحريض علناً على البحث عن مرجع ديني عراقي لا يكون ولاؤه لإيران. في مرحلة لاحقة قد يتخلى عن الشرط الأول متمسكاً بالشرط الثاني.
المراجع الشيعية المعتمدة في النجف كلها ليست من أصول عراقية. وقد يرجئ الصدر النظر في المسألة بالرغم من الصعوبة التي سيواجهها في إقناع أتباعه أن يبقوا موقتاً من غير ذلك التقليد الذي يثبت المرء من خلاله شيعيته. واستناداً إلى الهالة الأسطورية التي يُحاط بها ذلك الرجل اليتيم، سيتمكن الصدر من اجتياز ذلك الاختبار العقائدي الذي وضعته إيران في طريقه من غير خسائر تُذكر. وبقدر ما كانت تلك المحاولة ضربة إيرانية موفقة أُريد منها إدخال التيار الصدري في خلافات داخلية تتعلق بالعقيدة بقدر ما استفاد منها الصدر في تعميق انشقاقه عن الشيعية السياسية التي حكمت العراق حوالى عشرين سنة وتريد أن تحكمه سنوات أخرى بالرغم من أنها فشلت في أن تقنع الشيعة العاديين غير الحزبيين بصلاحيتها للقيام بذلك، بسبب ما خلفته سياساتها من خراب لم يترك جزءاً من حياة العراقيين إلا وضربه.
المغامرة في درجاتها المختلفة
في معركته الأخيرة مع خصومه خسر الصدر ثلاثين من مقاتلي “سرايا السلام” في معركة يمكن أن تكون مفتتحاً لحرب شيعية – شيعية. اللافت أنه لم يُعلن عن أسمائهم ولم يتم تشييعهم بشكل استعراضي. حدثٌ لم يعلق عليه أحد ولا جرى تفسيره بالرغم من غرابته. من المؤكد أن الصدر يتوقع أن حربه لم تنتهِ بعد. وهي لم تنتهِ بعد حقاً وإن انتشى خصومه بالتهدئة التي فرضها بنفسه حين أمر أتباعه بعدم اقتحام المنطقة الخضراء وهي منطقة الحكم مرة أخرى إلا إذا تغيرت الظروف. يعرف الصدر أن خصومه الذين يمثلون إيران بشكل رسمي لا يزالون قادرين على المقاومة وهي شعارهم مثلما هي شعار “حزب الله” وهو يقاوم إرادة الشعب اللبناني. وهو يعرف أن صراعه الحقيقي ليس معهم، بل مع إيران التي لم تتخلَ بعد عن رؤيتها للعراق التابع، حديقتها الخلفية وجبهتها الأمامية في صراعها مع العرب، ولم تتفهم حاجة العراق إلى أن يستعيد سيادته ويكون وطناً لمواطنيه الذين عاشوا معاناة وشظف العيش في ظل حربين مدمرتين تلاهما حصار ظالم لم يستثنِ شيئاً إلا وشمله وصولاً إلى أقلام الرصاص وحفاضات الأطفال.
الدرس الإيراني والدولة الغائبة
ما صارت إيران تعرفه قبل أتباعها في العراق أن سياسة الأمر الواقع لن تنفع مع الصدر. فالرجل يعرف أن مغامرته تبدأ في تحرير شيعته وهم شيعة العراق من التبعية الإيرانية ومن وهم التمثيل الإيراني للشيعة. سيُقال إن تلك مسألة مذهبية لا علاقة لها بالسياسة. ذلك كلام فيه الكثير من النفاق. من غير سياسة لا قيمة للمذهب بالنسبة إلى إيران. ذلك ما قاله الخميني. وكما يبدو فإن الصدر قرر أن يكون واضحاً بالحجم الذي يتساوى مع الوضوح الإيراني. استوعب الصدر الدرس الإيراني وهو يقاوم انطلاقاً من مفردات ذلك الدرس. لذلك فإن أية مفاوضات مع تحالف “الإطار التنسيقي” لن تكون نافعة لأنها ستظل عائمة على السطح. فالتابعون لا يملكون قراراً. إنهم يدافعون عن استمرار مصالحهم بما يعني أن دولة الفساد ستظل قائمة في العراق. ولكن إيران ستكتفي بالتآمر من بُعد ولن تدخل طرفاً في الصراع وذلك ما يدفع الصدر إلى القيام بتعطيل عمل الدولة لكي لا تكون هناك دولة، فيفشل خصومه في فرض رئيس حكومة لدولة لا وجود لها.
* نقلا عن ” النهار “