مقالات
نشأة «حزب الله» وارتهان لبنان ( 2 )
حامد الحمود
لا يمكن الحديث عن هيمنة «حزب الله» على الحياة السياسية في لبنان من دون الحديث عن الفراغ السياسي والعسكري في جنوب لبنان بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982. وذلك بعد خروج المقاومة الفلسطينية وقيادتها كلياً من لبنان. هذا ومع أن المقاومة الفلسطينية تم تحجيمها بعد دخول القوات السورية للبنان عام 1976، فإن قيادتها وبنيتها العسكرية ظلت صامدة، وساعدها في ذلك قدرة الرئيس ياسر عرفات على المراوغة والدخول في صفقات سياسية مع المنافسين والأعداء في الساحة اللبنانية. وفي عام 1976 انتخب الحقوقي إلياس سركيس، الذي كان محافظاً للبنك المركزي اللبناني لتسع سنوات، رئيساً للبنان. وكان الرئيس سركيس شخصية شهابية (نسبة للرئيس فؤاد شهاب) نزيهة وصلت إلى سلم الرئاسة في عصر بلغ فيه الوضع السياسي منتهى التفكك. وربما نسيه اللبنانيون لنزاهته. لكن أهل بلدته الشبانية كرموا ذكراه بأن وضعوا له تمثالاً عند مدخل بلدته.
هذا وإن كانت الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان لم تتوقف فإن الغزو الإسرائيلي للبنان فاجأ القيادة الفلسطينية، التي وجدت نفسها منهكة وغير قادرة حتى على تأخير دخول القوات الإسرائيلية للعاصمة بيروت. كما أن أداء الجيش السوري في صد الغزو الإسرائيلي لم يكن أفضل. فقد خسر سلاح الجو السوري أكثر من ثمانين طائرة في محاولته للتصدي للطيران الإسرائيلي. هذا في بلد يرأسه حافظ الأسد الذي كان نفسه طياراً في سلاح الجو السوري. لذا وبعد عام 1982، امتنع الطيران السوري عن التصدي للطيران الإسرائيلي، مكرساً الطيران السوري لقصف السوريين أنفسهم.
وكشف الغزو الإسرائيلي للبنان أموراً كثيرة، من بينها أن المقاومة الفلسطينية كانت أقدر على خوض الحروب الأهلية من قدرتها على صد الغزاة الإسرائيليين. وأن المهزوم مستعد لأن يتعاون مع أي كان لتجاوز هزيمته. هذا كان موقف الأحزاب المسيحية اللبنانية، وبالذات «القوات اللبنانية» من الغزو الإسرائيلي. فوجدت فيه فرصة لبسط نفوذها أو على الأقل لتعويض خسائرها. فكان انتخاب بشير الجميل رئيساً للبنان في 23 أغسطس 1982 في ظل الاحتلال الإسرائيلي، الذي اغتيل بعدها بثلاثة أسابيع، وهو يخطب بين مناصريه بتفجير قنبلة وضعها حبيب الشرتوني، الذي قيل إنه ينتمي إلى الحزب القومي السوري، لينتخب من بعده شقيقه الأكبر أمين الجميل، الأكثر اعتدالاً منه، والأكثر قبولاً في المحيط اللبناني والعربي.
هذا وإن لم يكن هناك تاريخ محدد لإعلان تواجد حزب الله على الساحة اللبنانية، فإنه يمكن القول إن البدايات كانت في عام 1982، بعد أن سمحت السلطات السورية، التي هيمنت على الساحة العسكرية والسياسية في لبنان، بعد خروج المقاومة الفلسطينية وانسحاب إسرائيل إلى المناطق الجنوبية من لبنان، بأن يقوم خبراء عسكريون من الحرس الثوري بتدريب عناصر تنتمي إلى الطائفة الشيعية، بعضهم كان قد شارك تنظيم فتح في قتاله ضد الإسرائيليين. ولم تكن البدايات سلسة. فكثيراً ما كان هناك توتر بين هذا التنظيم الناشئ والقوات السورية المتحالفة مع حركة أمل، التي أسسها موسى الصدر، وبعده نبيه بري بعد اختفاء الأول في زيارة إلى ليبيا. ومع نمو حزب الله وتميز أفراده بالتدريب والانضباط، ازداد التنافس بين الثنائي الشيعي أمل وحزب الله. ففي حرب المخيمات بين حركة أمل والمقاومة الفلسطينية وقفت القوات السورية مع حركة أمل، بينما ساعد حزب الله المقاتلين الفلسطينيين.
وكثيراً ما كانت حركة أمل تشتكي للإيرانيين تعدي حزب الله على مناطق نفوذها في بعلبك والقرى المحيطة بها. وقد بلغ التوتر أوجه، عندما اختطف حزب الله ضابطين سوريين، مما أدى إلى أن تقتحم القوات السورية ثكنة فتح الله مقر الحزب في بيروت الغربية، وتقتل العديد من أفراد الحزب. وقد اتهم صبحي الطفيلي – الأمين العام لحزب الله آنذاك – سوريا بالتآمر مع إسرائيل. هذا وفقاً لما ذكره مهند الحاج علي في بحثه المنشور من خلال موقع مركز مالكوم كير – كارنيغي للشرق الأوسط في 7 مايو 2019 (carnegie-mec.org)، ويضيف مهند الحاج علي في بحثه موضحاً طبيعة العلاقة بين حزب الله وسوريا:
«طيلة زهاء أربعة عقود كانت الروابط بين سوريا وحزب الله تجسّد أيما تجسيد طبيعة الديناميكيات بين دمشق وطهران. والتوترات كانت تندلع حين تشعر سوريا أو حزب الله أن أحدهما يتعدى على سلطة الآخر».
وما زال هناك توتر بين حزب الله والنظام السوري، حتى بعد تدخل الحزب في إنقاذ النظام السوري عندما دفع الحزب بقواته لمحاربة الثوار السوريين في منطقة القصير على الحدود اللبنانية عام 2012، ثم نشرها في كل أنحاء سوريا حليفاً لقوات النظام السوري. وكان دخول القوات الروسية لدعم النظام السوري في عام 2015 ليس لهزيمة الثوار فقط، وإنما للحد من نفوذ الحزب في سوريا، الذي حاول أن يتمدد أيديولوجيا من خلال الـ%2 من سكان سوريا من الشيعة. لكنه يبقى «توتراً» بين الحلفاء.
هذا وإن كان الحزب يرى بنفسه أن دفاعه عن النظام السوري كان دفاعاً عن النفس لكون سوريا تشكل جسره إلى العراق وإيران، فإن الغالبية العظمى من العرب أصبحوا ينظرون له على أنه تدخل لحماية نظام دكتاتوري طائفي، بما في ذلك غالبية الطائفة السنية في لبنان. كما أن الغالبية من العرب تنظر إلى حزب الله إلى أنه مجرد أداة لتحقيق أهداف استراتيجية إيرانية في المنطقة، بعد أن كانت تجله وتدعمه بعد حرب 2006 مع اسرائيل. وبالتأكيد فإن حزب الله، الذي كان أمينه العام صبحي الطفيلي، هو غير حزب الله حسن نصرالله. وأن سلاحه قد حقق هيمنة طائفية على لبنان أكثر من تحقيقه انتصارات على إسرائيل. وأن احتمال عودة مزارع شبعا إلى لبنان من خلال مفاوضات هو أكثر من احتمال استرجاعها بالقوة.
ولعل أكثر ما سيحرج الحزب هو عودة مزارع شبعا من خلال مفاوضات مع إسرائيل. كما أن هناك خلافاً على تبعية مزارع شبعا ان كانت لسوريا أم للبنان؟ فلو افترضنا أن إسرائيل أعادت مزارع شبعا إلى سوريا عبر مفاوضات مع الأسد، فهل سيدخل الحزب في حرب تحرير مع النظام السوري؟ كما أن وضع الحزب على لائحة الإرهاب لدى أكثر من دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة، كان السبب في عزلة لبنان اقتصادياً وسياسياً عن دول كثيرة بما في ذلك دول الخليج، التي ساهمت كثيراً في انتعاش لبنان اقتصادياً على مدى ستة عقود.
نقلاً عن “القبس”