لماذا لا نعثر على آثار فارسية في سورية ومصر؟
صقر أبو فخر
أعظم الاكتشافات الأثرية في العالم موجودة في نينوى ومكتبة أشور بانيبال في العراق، وفي طروادة ومقبرة ميسينا في بلاد الإغريق، وفي تل العمارنة ومقبرة توت عنخ آمون في مصر، وفي أوغاريت (رأس شمرا) ومملكة ماري (تل الحريري) وإيبلا (تل مرديخ) في سورية. والمفارقة الغريبة أن الفرس الذين احتلوا سورية ومصر في حقبة معروفة لم يخلّفوا أي شواهد آثارية أو عمرانية مهمة في البلدين. لقد تركتْ جميع الإمبراطوريات التي احتلت سورية ومصر آثارها في هذه البلاد، مثل الرومان (دمشق وبعلبك وبصرى) والبيزنطيين (كنيسة القيامة في القدس) والعرب (القصور الأموية) والفرنجة (حصن الأكراد) والسلاجقة (قلعة دمشق) والمماليك (طرابلس) والعثمانيين. حتى إن الاسكندر المقدوني ترك وراءه، علاوة على القصور والمعالم، اسمَه في مدينتي الإسكندرون والإسكندرية. هنا، في هذه المقالة، محاولة محتشمة للإجابة عن السؤال التالي: لماذا لم يترك الفُرس أي آثار ذات قيمة في سورية الغربية أو في مصر، وحتى في الأناضول، مع أنهم احتلوا هذه البلدان وحكموهما قرابة مائتي سنة؟
الخرائب الفارسية
إذا استثنينا العراق جرّاء القرب الجغرافي من بلاد فارس، فإن الآثار الفارسية غير موجودة، إلى حد بعيد، في سورية (لبنان وفلسطين والأردن وسورية بما في ذلك كيليكيا والإسكندرون). وحتى في العراق، فإن الآثار الفارسية فيه قليلة، ولم تصمُد أمام الزمن، لأن معظمها مصنوعٌ من الطوب، وهو قليل القساوة، ويختلف تمامًا عن الآثار الرومانية المصنوعة من الحجارة البازلتية أو الصوانية بحسب طبيعة الأرض (طينية أم صخرية). وعلى سبيل المثال إيوان كسرى أو طاق كسرى في المدائن جنوب بغداد التي كانت تُسمى طيسفون؛ إذ لم يبقَ من طيسفون بعد بناء بغداد غير قرية رثة تُسمى اليوم “سلمان باك”. وللأسف الشديد، ما عادت شواهد الحضارة العراقية العظيمة التي تمثلت على مرّ الدهور بالسومريين والأكاديين والأشوريين والبابليين والسريان موجودة؛ إما دمّرتها الضباع المقروحة من طراز “داعش” ومشتقّاته، أو أنها مكدّسة في متاحف العالم، والقليل الباقي يتعرّض للعبث والإهمال.
في العراق مواقع كثيرة تحمل أسماء فارسية، وهذا طبيعي. لكن ما هو غير طبيعي أن الآرامية (وحتى العبرية) لم تقترض من الفارسية غير كلمات قليلة جدًا، مثل استبرق وسرادق وجص وديباج وسرداب. وجميع أسماء المواقع في العراق تقريبًا سريانية أو عربية، والقليل منها يوناني. وفي لبنان كلمة فارسية المبنى تدلّ على مكان، هي “كسروان” التي ربما كانت جمعًا لكلمة كسرو أو خسرو. لكن لا توجد في كسروان أي آثار فارسية تربط الاسم بالتاريخ. ولعل للاسم جذرا فارسيا ناجما عن انتماء الأخلاط السكانية التي قطنت في تلك المنطقة إلى غلاة الشيعة كالكيسانية والعلوية والاثني عشرية والدرزية.
لم يبقَ من بغداد العباسية إلا القليل من أوابدها، فقد اندثر معظمها، بينما لا تزال آثار العصر الأموي قائمة في بلاد الشام
لا نعثر على قلاع وحصون وقصور ومسارح ومبانٍ كبيرة كالمدارس والمستشفيات (البيمارستانات) والحمّامات والخانات ذات الطابع الفارسي في سورية على سبيل المثال. الموجود القليل هو الأواني الفخّارية والمزهريات والنقود والنقوش المتناثرة والتماثيل الصغيرة التي وُجدت في خرائب أحد القصور القديمة في صيدا. وهذه اللّقى، خصوصًا الأواني، ليست بالضرورة فارسية، بل إنها من المصنوعات المحلية، وإن كانت تعود إلى عصر الاحتلال الفارسي. وكانت سورية تُعتبر دائمًا متحفًا هائلًا في الهواء الطلق، وفوق أراضيها قامت حضارة إيبلا (تل مرديخ) وحضارة دورا أوروبوس (تل الصالحية) ومملكة ماري (تل الحريري) وأوغاريت (رأس شمرا)، فضلاً عن تدمر وقلعة سمعان وبصرى وعمريت وأفاميا وشهبا وقلعة الحصن وقلعة شيزر وقلعة المرقب وقلعة حلب وهياكل بعلبك ومسجد بني أمية في دمشق والمسجد الأموي في حلب والقصور الأموية الصحراوية، مثل قصري الحير الشرقي والحير الغربي، والمدارس التاريخية كالمدرسة الظاهرية المملوكية (على اسم الظاهر بيبرس) والمدرسة الجقمقية المشهورة (مملوكية تحوّلت إلى متحف الخط العربي)، والمدرسة العادلية (أيوبية على اسم العادل سيف الدين بن أيوب). وبين هذه كلها، وهي غيضٌ من فيض، لا نجد للفرس أثرًا أو عمارة.
لم يبقَ من بغداد العباسية إلا القليل من أوابدها، فقد اندثر معظمها، بينما لا تزال آثار العصر الأموي قائمة في بلاد الشام. ويمكن أن يضاف مسجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى في القدس، وقصر ابن هشام في أريحا، والقصور الصحراوية الأموية في الأردن. وللأسف، محا الزمن كثيرًا من القصور العباسية في بغداد من أديم الأرض، لكنها بقيت خرائب أو في بطون الكتب مثل دار الخلافة (القبّة الخضراء) وقصر الخلد وقصر الرصافة وقصر الثريا وقصور البرامكة وقصر التاج ودار المقتدر (دار الشجرة) والقصر البويهي.
ومن آثار دمشق الصامدة مسجد بني أمية الذي يمثل مَعْلمًا تاريخيًا يروي تعاقب الحضارات وبقاء شواهدها: فهذا المسجد الكبير تتعانق في أرجائه الحضارات الرومانية والبيزنطية والعربية (من دون الفرس)، فقد بدأ معبدًا للإله السوري القديم حدد. وعقب سيطرة الرومان على سورية تحوّل إلى هيكل جوبتير وتوسّع عمرانه. ثم، في العهد البيزنطي، أصبح كنيسة باسم القديس يوحنا المعمدان. وفي عهد الوليد بن عبد الملك الأموي، أُضيفت إلى عمارته المنائر والقسم الشمالي، وجرت زخرفته بالفسيفساء والنقوش. واليوم ما برحت تلك الطُرز المعمارية المتعاقبة موجودة كلها في المكان. أما في مصر فكل ما أمكن رصده من متروكات فارسية هو تمثال صغير ارتفاعه 70 سم من دون الرأس والرقبة والذراع اليسرى (محفوظ في الفاتيكان)، وأهميته في النقوش الباقية عليه التي تروي بعض أخبار قمبيز. وعُثر في مصر على 20 لوحة فارسية في سيرابيوم منف، وبعض التماثيل المتفرّقة هنا وهناك، ولوحة في تل المسخوطة مهشّمة إلى ثماني قطع. وقد جرى لصق سبع منها، ولم يُعثر على الثامنة.
حضارة بلا أساطيل
ارتبطت مظاهر الحضارات بالدين ارتباطًا وثيقًا، وتجلى ذلك في الأعياد والكرنفالات والمعابد والمسارح والميادين. ومع أن للفرس ديانتهم القديمة، الزرادشتية، إلا أننا لا نعثر على تمثلات للحضارة الفارسية القديمة؛ فلا معابد ولا مسارح ولا قصور ولا حصون أو قلاع خارج النطاق الجغرافي للدين الفارسي. والمعروف أن الحضارة الفارسية لم تتمكّن من نشر ديانتها خارج المجال التاريخي للثقافة الفارسية، خلافًا للآراميين الذين نشروا المسيحية في مصر والعراق وبلاد فارس وبلاد الروم والرومان، ووصلوا بها إلى الهند من طريق دلمون (البحرين) وحضرموت. وقد برع الفرس في المنمنمات وتشجير السجاد والعمارة والزخرفة وتزيين المباني بالقيشاني، وكذلك إدارة الدولة (خصوصًا شقّ الطرق وتنظيم البريد). لكن، لم يطوِّر الفرس طرازًا فنيًا خاصًا إلا في العمارة وصُنع السجاد والمنمنمات والتصوير. وحتى فن العمارة استعاره الفرس من ليديا (غرب الأناضول) ونينوى وبابل. وقد أضفى البنّاؤون الفرس على تلك الطُرز المختلفة ملامحهم الخاصة، فصارت مبانيهم تتسم بالتناغم المميز.
يقول ديورانت: “كان جُلّ اعتماد الفرس في الفنون على ما يأتيهم من البلاد الأجنبية (…)، وكانوا يَكِلُون إلى الفنانين الأجانب (…) صُنعَ هذه الأشياء، ويحصلون من الولايات التابعة لهم على المال الذي يؤدّون منه أجور أولئك الفنانين” (راجع: ويل ديورانت، قصة الحضارة، الجزء الثاني، بيروت: دار الجيل، 1988). والواضح أن من الصعب العثور على نقوشٍ فارسيةٍ ذات أهمية قبل الملك قوروش، ثم ابنه قمبيز، ربما لأن الفرس قبل قوروش كانوا قبائل محاربة (مثل الأتراك الغُز)، ثم بعد أن أسّس قوروش المملكة الأخمينية، بدأت تظهر، بالتدريج، معالم التحضّر. ثمّة حقًا قصور جميلة وحمامات فاخرة وبيمارستانات فارسية، وهذه المعالم من الأمور البدهية والطبيعية للتحضّر والاجتماع البشري، مثل برسيبوليس عاصمة الملك دارا (داريوس) وعاصمة الملوك الفرس الذين جاءوا بعده. لكن ذلك كله بقي في بلاد فارس وجوارها القريب.
لم يكن للفرس، في الميدان العسكري أسطول كبير، بل كانوا يستأجرون الفينيقيين لشنّ الهجمات البحرية. ولعل السبب أن فارس، في الأساس، حضارة برية، وسكّانها رعاة وبدو وفلاحون، وهؤلاء لم يمتلكوا أي معرفةٍ بالبحر وفنون الملاحة وقيادة الأساطيل. ولهذا السبب، كان الأسطول الفينيقي عماد البحرية الفارسية في هجوم قمبيز بن قوروش على مصر في سنة 529 ق. م، وعلى اليونان بقيادة أحشويروش بن دارا في سنة 485 ق. م. وذلك الأسطول دُمِّر تماماً في معركة سلاميس في سنة 480 ق. م. (انظر: فيليب حتي، تاريخ سورية، الجزء الأول، بيروت: مؤسسة فرانكلين، 1958، ص 245).
إمبراطورية مدرّعة
تاريخ فارس هو تاريخ الحرب والقتال، فالميديون دمّروا نينوى عاصمة الأشوريين، لكنهم بادوا واندثروا ولم يتركوا أي أثر حضاري على الإطلاق. ثم سيطر الفرس على بلاد الميديين، وتمكّن قوروش مؤسّس الأسرة الأخمينية الفارسية من تأسيس إمبراطوريةٍ ضمّت أشور وبابل وآسيا الصغرى. وقوروش هذا، المبجّل في التاريخ الإيراني، هو الذي قضى على الحضارة البابلية العظيمة في سنة 538 ق. م، ودمّر عاصمتهم، ثم لم يتورّع عن اتخاذها عاصمة له. وإلى عهد قريب، كانت ايران تحتفل في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر من كل عام بسقوط الدولة البابلية، ويُسمّون هذا الاحتفال “عيد قوروش”. وقوروش هذا هو الذي “حرّر” اليهود من السبي البابلي، وقد مجّدته الكتب اليهودية كالتلمود فوصفته بأنه “المسيح المخلّص”. وأحرق أرتحششتا صيدا في سنة 351 ق. م، وهي المرّة الثانية بعد أن أحرقها أسرحدون في سنة 677 ق. م.
وخرّب الفرس مدينة الإسكندرون في القرن الثالث ميلادي، وظلت خَرِبة حتى الفتح العربي لسورية، أي طوال 900 سنة. ودمّر الفرس كنيسة الجثمانية وكنيسة الصعود في فلسطين في عام 614 ميلادي.
كانت الدولة الفارسية كالدولة الأشورية دولة مدرّعة، وأينما حلّت حلّ الخراب معها. ويقول ويل ديورانت: “ليس في التاريخ كله ما يماثل المجازر المروّعة والدم المراق اللذين تطالعنا بها سجلات الفرس الملكية إلا سجلات روما بعد تيبيريوس” (انظر: ديورانت، قصة الحضارة، مصدر سبق ذكره). وقد دام حكم الفرس العراق نحو مائتي سنة، ولم يخرُجوا منه حتى هزمهم الإسكندر المقدوني في سنة 321 ق. م. في زمن دارا الثالث (داريوس)، ولم يقاتل من جنودهم غير المرتزقة اليونانيين المعادين للمقدونيين. ودشّنت هزيمة دارا في معركة إيسوس في سنة 333 ق. م. اضمحلال الإمبراطورية الفارسية اضمحلالًا مهينًا، وبادت معها جميع شواهدها التي ربما وُجدت خارج نطاقها الفارسي.
العربي الجديد