لماذا تتعثر العدالة في لبنان أمام شبهات تورط “حزب الله”؟
طوني بولس
يشكل مسار التحقيقات في تفجير مرفأ بيروت نموذجاً عن عرقلة تحقيق العدالة في معظم الجرائم السياسية (غتي)
منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية قبل أكثر من 33 عاماً، مخلفة حوالى 200 ألف قتيل و800 ألف مهجر و17 ألف مخطوف ومفقود، إلا أن ذلك لم يؤسس لبناء دولة وعدالة، بل لا تزال الجرائم مستمرة، إذ اغتيل عديد من السياسيين والصحافيين والناشطين والأمنيين وغيرهم، وسقط في خضم ذلك مئات المدنيين، ولم تتحقق العدالة في الأكثرية الساحقة منها، إذ بعد كل جريمة يتكرر مشهد رفع رفات الضحايا وأشلائهم، وتختفي بعدها معالم الجريمة وتستكمل الحياة وكأن شيئاً لم يكن.
وعلى خلاف الجرائم ذات الأبعاد السياسية، تبرز قدرة الأجهزة الأمنية اللبنانية على كشف كثير من الجرائم الجنائية المعقدة بأوقات قياسية وبحرفية عالية، مما يطرح تساؤلات حول “الانتقائية” في الجرائم التي تستكمل فيها التحقيقات ومعرفة المرتكبين ومحاسبتهم ومحاكمتهم لإنزال العقوبات المناسبة في حقهم.
تقنيات وقدرات
وفي هذا السياق أكد مصدر مسؤول في قوى الأمن الداخلي أن الأجهزة الأمنية اللبنانية تمتلك قدرات بشرية وتقنية متقدمة، وأنها تصنف في أعلى المستويات الإقليمية كونها قادرة على الاستجابة والتعامل مع أي حدث أمني مهما كان حجمه، إضافة إلى أنها نجحت بشكل كبير في الأمن الاستباقي، وهي شريكة أساسية في مكافحة الإرهاب الإقليمي والدولي.
وحول التقصير في الكشف عن مرتكبي معظم الجرائم ذات الطابع السياسي، يبرر بأنه عادة تكون تلك الجرائم معقدة بشكل كبير، معتبراً أن غياب الاستقرار السياسي يؤدي إلى الفوضى الأمنية، كما يعطي مرتكبي ومنفذي بعض الجرائم حمايات طائفية وسياسية تشكل ضغطاً وارتباكاً في عمل الأجهزة، مشيراً إلى أن التحقيقات وتعقب المجرمين يجري بإشراف القضاء الذي له الحق في استبدال الجهة التي تتابع التحقيقات أو إحالتها من محكمة إلى أخرى، معتبراً أن تسييس التحقيقات قد يدخل من هذا الجانب، مما يعقد المسألة ويفوت تحقيق العدالة في بعض الأحيان.
تورط الحزب
وبشكل عام لا تروي التبريرات الرسمية غليل الرأي العام المتعطش للعدالة في القضايا السياسية سواء كانت مرتبطة بجرائم أم بفساد وصفقات، إذ تعتبر شرائح واسعة لدى الرأي العام أن القوى السياسية الفاعلة لديها قدرة على وقف التحقيقات ومنعها، ودائماً تستحضر جريمة تفجير مرفأ بيروت التي تمت فيها عرقلة مسار العدالة من خلال تدخلات مكشوفة للجميع، إضافة إلى تهديد علني قام به مسؤول وحدة التنسيق والارتباط في “حزب الله” وفيق صفا عندما اقتحم قصر العدل وهدد بـ”قبع” المحقق العدلي في قضية المرفأ القاضي طارق البيطار.
ويرى كثيرون أن “حزب الله” هو أبرز المتدخلين في عرقلة التحقيقات في الجرائم السياسية، إذ برز أخيراً اتهام مباشر من رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع للحزب بتصفية إلياس الحصروني، وهو أحد الكوادر الحزبية، ليعلن لاحقاً أنه تبلغ من الأجهزة المولجة بالتحقيقات أنها لم تعد تستطيع استكمال عملها، في إشارة إلى تدخل “حزب الله” الذي، برأي جعجع، متورط بالجريمة.
“نهاية مفتوحة” لملف اغتيال رفيق الحريري
في المقابل كانت لافتة السرعة التي كشف فيها عن مطلق النار على السفارة الأميركية في بيروت ليتبين وفق الرواية الرسمية أن الجاني لا ينتمي إلى “حزب الله”، مما عزز لدى شرائح واسعة في الرأي العام أن الأجهزة اللبنانية تستطيع أن تكتشف جميع الجرائم التي لا علاقة للحزب بها مهما كانت معقدة في حين أنها تعجز عن الكشف عن الجرائم الأخرى التي يشتبه بأن الحزب يقف وراءها، وهذا ما حصل مع سلسلة كبيرة من الاغتيالات التي بدأت عام 2005 برئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، وكان آخرها العام الحالي إلياس الحصروني.
ثقافة الحرب
من جانبها توضح الأستاذة الجامعية في العلوم السياسية كارمن أبو جودة أن “مبدأ حقوق الإنسان يضمن إجراءات قضائية وغير قضائية، تنطلق من مبادئ عدم الإفلات من العقاب، مثل الحق في العدالة والحق في المعرفة والحق في جبر الضرر وضمان عدم التكرار”، وأشارت إلى أنه في لبنان لم تلتزم سلطة ما بعد الحرب بهذه المبادئ، ولم تطبق أي من هذه الإجراءات، مما أدى إلى استكمال سياسة الإفلات من العقاب التي كانت سائدة خلال الحرب، معتبرة أن استمرار زعماء الحرب بالحكم في مرحلة السلم، وإنهاء الحرب بلا مصارحة أو مصالحة حقيقية، وطمس حقائق الحرب يشكل عاملاً أساسياً باستكمال تلك الثقافة.
القضاء الدولي
وأمام واقع اللا عقاب في لبنان يسأل بعضهم عن إمكان التوجه إلى المحاكم الدولية، وبالفعل عمد بعض النواب إلى توجيه رسائل عدة لمنظمات الأمم المتحدة لتشكيل لجنة تقصي حقائق دولية في قضية تفجير مرفأ بيروت، لكن اللجوء إلى العدالة الدولية لن يكون الأول، إذ سبق أن أصدرت محكمة دولية خاصة بلبنان حكمها بعد نحو 15 سنة بإدانة قياديين في “حزب الله” بقضية اغتيال الحريري، إلا أنه المتهمين ما زالوا أحراراً، وأعلن الأمين العام للحزب حسن نصر الله سابقاً أنه لن يسلمهم، معتبراً أن إسرائيل تقف وراء تلك المحكمة وأن هدفها النيل من حزبه.
التدخلات السياسية
من ناحية أخرى يعترف الرئيس السابق لمجلس شورى الدولة القاضي شكري صادر بوجود خلل كبير في التحقيقات المتعلقة بالجرائم السياسية أو التي يشتبه أن لـ”حزب الله” علاقة بها مباشرة أو غير مباشرة، مستشهداً بقضية مرفأ بيروت التي وصل “التسييس” فيها إلى حد رفض المشتبه بهم الامتثال أمام المحقق العدلي، والضابطة العدلية اعتبرت أن لا قيمة قانونية لمذكرات التوقيف، واعتبر صادر أن التدخل السياسي حاصر مطلب المطالبة بتحقيق دولي، إذ كان بإمكان السلطة اللبنانية ورئيس الجمهورية آنذاك التوجه إلى مجلس الأمن الدولي “ليعلن أن القضاء اللبناني والأجهزة الأمنية والسياسيين عاجزون عن كشف ملابسات جريمة المرفأ، ويقرر حينها تعيين لجنة تحقيق دولية تبت بالقضية”، مشيراً إلى أن التحقيق الدولي يفرض على الدول تزويده بصور الأقمار الاصطناعية التي لها دور أساسي في الكشف عن الحقائق.
القضاء مسيس
من جانبه أكد مدير مركز “سيدرا” للدراسات القانونية المحامي محمد صبلوح أن القضاء في لبنان غير مستقل، وقال “القضاء في لبنان مسيس والقاضي يحاول كسب ود السياسي حتى يتولى المناصب الرفيعة”، مشيراً إلى أن “معظم المسؤولين السياسيين يتدخلون في القضاء، ويتعاطى في الملفات القضائية بسياسة الكيل بمكيالين”، وأشار إلى أن السياسيين يتدخلون لإيقاف مسار التحقيقات في الجريمة، معتبراً أن القوانين تطبق على اللبنانيين غير التابعين أو المحميين من “حزب الله”، إذ لا تتجرأ الأجهزة أو القضاء على ملاحقتهم حتى بقضايا بسيطة، في المقابل “يتم توقيف بعض المواطنين بسبب مواقف على مواقع التواصل الاجتماعي”، وبرأيه يسهم القضاء بطمس عديد من الجرائم، مثل جريمة اغتيال الناشط السياسي لقمان سليم وغيره من المعارضين لـ”حزب الله”، على رغم وجود دلائل وقرائن تسهم في الكشف عمن ارتكبها.
أجهزة استخبارات دولية
في المقابل يرفض الإعلامي المقرب من “حزب الله” فادي أبو ديا الاتهامات الموجهة إلى الحزب بتورطه في عديد من الجرائم، معتبراً أن لبنان ساحة مكشوفة لجميع أجهزة الاستخبارات الدولية التي تستطيع ارتكاب الجرائم وعرقلة التحقيقات، ولفت إلى أن إسرائيل قد تقف وراء كثير من الاغتيالات في حق معارضين للحزب بهدف افتعال فتن داخلية عبر الإيحاء بأن “حزب الله” هو من يقف وراء تلك الجرائم، مشدداً على أن إسرائيل تسعى بمختلف السبل إلى تأليب الرأي العام على “المقاومة”.
نقلاً عن اندبندنت عربية