سمو ولي العهد.. في خطاب من حرير
عبد الله بشارة
تحدث سمو ولي العهد في خطاب، وكان نادراً في توجيهاته، مضيئاً في أمنياته، مستحضراً تشخيصاً دقيقاً وصادقاً عن الواقع السياسي والتنموي في الكويت، آملاً أن تكون مسيرة التعاون بين السلطتين مرتكزة على تبادلية الثقة ومنطلقة من قاعدة الشراكة التي رسمها الدستور، والتي أرادها المرحوم الشيخ عبدالله السالم تعبيراً عن التعاضد السياسي والمجتمعي، تأميناً لترسيخ سيادة الكويت وتحصين سلامتها وصون ترابها وتعميق استقرارها.
وأسعدني كثيراً ما شرحه سمو ولي العهد عن واقع الكويت الجغرافي، الذي يستوجب التدقيق في تقلباته ورصد تأثيراته على مستقبل الكويت، مع إشارته إلى أن حياة الكويت البرلمانية هي حصيلة عهد بين الشرعية التاريخية وأبناء الشعب، وترجم هذا العهد التاريخي وحدة الأفراح والأتراح بين الشعب والقيادة، في تشابك المصير من دون خلل قد تتسلل منه أصابع التخريب وخطط التوسع.
كان سمو الشيخ مشعل، ولي العهد، موفقاً في تعبيراته عن استدامة الحزمة الوطنية القوية التي تشكل سور الكويت، والنابعة من توافق البرلمان والحكومة في تعاون يؤمن تحقيق الأهداف بانسجام ورضا الجميع.
أشار سمو ولي العهد إلى أن هذه التمنيات لن ترى النور إذا غاب الاحترام عن الصلاحيات والاختصاصات، ولا سيما تلك التي يملكها سمو الأمير والتشكيك فيها، والاعتراض عليها، لأن ذلك يؤدي إلى ضياع مكانة الدولة وهيبتها، ويضعف أركان الحكم، ويعني ذلك أن يبتعد المجلس عن قضايا ليست من همومه ويتحاشى المواجهات مع الحكومة حول ملفات تخصها وحدها، لأن ذلك سيؤدي إلى الفوضى وضياع الرؤية، وهو أمر لن تسكت عنه القيادة ولن تسمح بحدوثه.
والواضح أن القيادة العليا ترصد الأجواء داخل المجلس، وتتابع تموجات العلاقة بين المجلس والحكومة، وأنها ـ أي القيادة – على وعي بمخاطر هذه التموجات، ومنها استوحت حتمية الانتقال إلى فصل جديد مغاير عن مواصفات الماضي، جسدته «وثيقة العهد الجديد»، ومعناه حمل الكويت إلى فضاء آخر ومحور عمل يختلف عما سبقه، أبرز تقاسيمه الانسجام بين الطرفين، وباختلاط جهودهما للوصول إلى تفاهم يحقق الإجماع، وأن هذا العهد الجديد لا يحتمل خلافات أو صراعات بين الطرفين، وأن تجربة الكويت وإشعاعها الإقليمي لا ينطلقان من أجواء الخلافات والصراعات، وإنما من التوافق والتعاضد، وأن القيادة العليا ستتدخل ولن تتساهل تجاه ما يؤذي الوحدة الوطنية أو يمس الهمة الجماعية.
والواضح أن جوهر وثيقة العهد الجديد يصاب بأذى مزعج إذا دب الخلاف، ولاسيما مع حالات التوتر التي تفرزها ممارسة الاستجوابات، التي من خلال التجارب سببت انقسامات وتباعداً بين أبناء المجتمع، والأمل أن تكون الممارسة في العهد الجديد وفق حقائق الدستور، مع إمكان الاستفادة من المحكمة الدستورية للوقوف على شرعيتها.
ولا شك بأن رئاسة البرلمان بقيادة المخضرم أحمد السعدون تدرك حساسية هذه الممارسة، وعلى وعي بضرورة الوقوف على مدى انسجامها مع اللوائح، وأكثر من ذلك، مع مصلحة الكويت العليا، وفوق ذلك كله، لا بد من إجراء مشاورات مع جميع الأعضاء لمعرفة المزاج العام داخل البرلمان.
ومن مفاجآت خطاب سمو ولي العهد، تطرقه إلى ضيق الكويت قيادة وشعباً بالتوتر والتصدع اللذين أصابا العلاقات بين الطرفين، مطالباً بتوحيد الكلمة لإعلاء المصالح العليا للوطن والمواطنين، مستعيناً بالوقفة الشعبية في عملية صنع القرار، مع مراقبة الأداء البرلماني والحكومي، ويضيف معبراً عن وعي متابع لأحداث الإقليم المجاور، ومتخوفاً من تقلبات إقليمية ودولية خطيرة، من فتن تحيط بالكويت ما بين حاقد يخطط ومتربص ينتظر وحاسد يأمل السقوط، ونحن مشغولون بأتفه الأسباب، وأتصور أننا جميعاً نرحب بجرس الإنذار الذي يترجم متابعة القيادة العليا لما يدور في الإقليم، تعبيراً عن الوعي الأمني الذي يشغلها.
لا ننسَ أن سمو ولي العهد عاش في فضاء الحرس الوطني فترة طويلة، ويملك الحس الأمني، ومنه ينطلق محذراً بتجاهل أصوات الفتنة، وداعياً إلى التسلح بالوحدة الوطنية، لمواجهة هؤلاء الدعاة صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، مجدداً استعداد القيادة للتصدي والقضاء على هذه المحاولات الخبيثة.
هذه الفقرة تشهد على ثقة القيادة بمتانة الوحدة الوطنية وصلابتها واستحالة التسلل منها، وهي ظاهرة ترسخت من تواجده في الحرس الوطني، وعمقت غيرته على الكويت، وأفرزت اعتزازه بتقاسيم وجهها المشرق.
ولا بد من الحفاظ على معاني وثيقة العهد الجديد في إبراز الاحترام لحقائقكل طرف وصلاحياته، القيادة العليا، الحكومة، والبرلمان، مع الإلحاح على التعاون في ما بينها وتأمين استمرار هذا التعاون وصونه من الانتكاس عبر متابعة دائمة من القيادة العليا، وبالذات مع تطوع سمو ولي العهد، ليكون أول المحاسبين، منصفاً من أعطى ومعبراً عن عدم رضا لمن أساء، وموجهاً دعوة للمشاركة الشعبية لمتابعة أداء كل من المجلس والحكومة.
كان سمو ولي العهد يتحدث بثقة تترجم إيمانه بأن الكويت تتواجد في بيئة تلمع بالشفافية، وتتنفس بروح التضامنية الجماعية، وتثق بآليات المتابعة التي يقودها سموه بنفسه، وترصد ما يدور في الإقليم وتتحفظ ضد إفرازاته.
كان بيان سمو الأمير الذي قدمه سمو ولي العهد شاملاً، ترجم معاناة القيادة، كما عبّر عن تفاؤلها، وكانت تلاوة الخطاب تجمع الرصانة مع الوضوح، وتغذي المستمعين والمتابعين بمشاعر الارتياح، بأن الغد مزدهر ومملوء بالإنجازات، ومسؤولية القيادة الآن ترجمة هذه التوقعات.
كان أداء رئيس السن السيد مرزوق الحبيني ممتازاً في قراءة الخطاب بهدوء، مشيراً بتفاؤل إلى مسيرة المستقبل، مع تمنيات بمناقشة ملفات استعرضها واستنسب بحثها مستقبلاً.
وحول وثيقة العهد الجديد، أرى من المناسب أن أشير إلى الثقة الكبيرة التي يتمتع بها الرئيس أحمد السعدون من أبناء الكويت، حيث يعولون على خبرته وعلى موضوعيته، وحرصه على المسيرة البرلمانية في صد التطرف وتحصين الدستور ومحتوياته، مستوحياً مفاهيم الشراكة بين الشعب والقيادة التاريخية لإدامة ازدهار الكويت، وتطويق الأذى عنها وإبعاد ما يمس وحدتها وإبراز اعتدالية الطرح وعقلانية المفردات وتحصين المقام البرلماني، وبهذه الروح سيحتل موقعاً مميزاً في مسار الكويت.
جاء خطاب سمو رئيس الوزراء الشيخ أحمد نواف الصباح بعد طرح وثيقة العهد الجديد، كما جاءت في بيان سمو ولي العهد، حيث دشنت فصلاً جديداً في حياة الكويت، سيسهل المأمورية التي يتحملها رئيس الوزراء، وأشير إلى ثلاثة محاور عليه تطويعها لخدمة مشروعه التاريخي، أولها: ميلاد البيئة السياسية الجديدة، التي تفرض على البرلمان والحكومة التعاون والتفاهم حول مسار المستقبل، واستثمار الأجواء الرحبة التي تولدت من وثيقة العهد، وذلك بتواجد البرلمان شريكاً وموافقاً على تبني هذا النهج، وثانياً: تأكيد إغلاق منافذ الوساطات وتدخلات النواب وإنهاء عصر الاضطراب الوظيفي، وآخرها: تأكيد سيادة القانون واحترام حقوق الكفاءة والترحيب بالموهبة، وإخضاع نهج التوافق الحكومي ــ البرلماني لإقرار خطة الانطلاق التنموي.
ونستمع إلى كلمات سمو رئيس الوزراء بمصداقية لما فيه من مواصفات في العفة والنزاهة ونظافة سيرته الذاتية، ونثق بأن هذه الاستثنائية الأخلاقية تتولد منها ديناميكية المتابعة والتواصل وتحقيق الإنجازات، ومن المهم أن ينسق سمو رئيس الوزراء مع رئيس مجلس الأمة هذا التشاور الملزم الذي يخلق بيئة صالحة ومريحة للإنجاز مع حوارات متواصلة مع جميع النواب مهما تباينت المواقف، مع التذكير بأن تواصل المسؤولية لسمو رئيس الوزراء يأتي من التفاهم والتعاون مع النواب.
نحن الآن في فصل مملوء بالتفاؤل والاستقرار والإنجاز، واعتماداً على تعهدات سمو ولي العهد نؤمن بأن الخير قادم استقراراً وعطاءً.
* نقلا عن “القبس”