حلّ العُقدة الإيرانية… وجهة نظر إماراتية
ابتسام الكتبي
تحوَّل مشروع الهيمنة الإيراني إلى معضلة إقليمية، تزداد تعقيداً كل يوم، وتستعصي على الحلّ؛ فلا إيران نجحت في بسط هيمنتها الإقليمية، ولا نجحت كُلُّ وسائل الحرب والسلم في إقناع قادتها بالعدول عن هذا المشروع المُدمّر. وفيما هدَّدت هذه العُقدة أمنَ واستقرار الشرق الأوسط بوجه عام، ومنطقة الخليج على وجه التحديد طيلة العقود الأربعة الماضية، أثبتت التجربة التاريخية أنَّ المنطقة لن تشهد الأمن والاستقرار ما لم تحل هذه العُقدة التي لم تعُد تكلفتها محصورة اليوم بمنطقة الشرق الأوسط، بل طالت المصالح العالمية برمتها.
وتُشير الرؤية الاستراتيجية المُتحصِّلة من تتبُّع الاتجاهات الكبرى؛ السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية في إيران، إلى أنَّ المستقبل سيحمل معه رياحاً أعتى، في حال لم يجد المجتمع الدولي طريقاً لجعل النظام السياسي في إيران يشبه الدولة الطبيعية، وذلك استناداً إلى التطلعات المتنامية لبعض القوى السياسية داخل إيران التي ستُضيف مستويات جديدة من التعقيد إلى العُقدة الإيرانيّة. وتبدو الأعوام القليلة المقبلة أعواماً مصيريَّة ضمن الملف الإيراني، فإنْ لم يضع المجتمع الدولي حَدّاً لتفاقم المعضلة، سنشهد انفتاح الأزمة الإيرانية على سيناريوهات أكثر سوداوية.
من «خطة العمل الشاملة المشتركة» التي رضخت فيها القوى العالمية لاستراتيجية «تفكيك الملفات» الإيرانية، وانتهت بالتركيز على الملف النووي من دون الملفات العالقة الأخرى، إلى سياسة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب لترويض النظام الإيراني، شهدت العقدة الإيرانية عدّة محاولات للحل، لكنَّها أخفقت جميعها في تأهيل النظام السياسي الإيراني. بل استغلت طهران تركيز الغرب على برنامجها النووي من دون الملفات الأخرى، لبسط نفوذها الإقليمي، وتطوير برنامجها الصاروخي. كما لم تكن سياسة «الضغوط القصوى» كافية لإخضاع إيران، وإعادتها إلى طاولة المفاوضات، على الرغم من تحقيق حملة «الضغوط القصوى» بعض النتائج الإيجابية في هذا الاتجاه.
ويمكن إحالة أسباب إخفاق «الاتفاق النووي» إلى تجاهله محدِّدات استراتيجية تحكم تصوُّر إيران عن نفسها، وعن العالم، بوصفها دولة ذات نزعة إمبراطورية عقائدية، وكذلك إلى تفاؤله المُفرِط بشأن رغبة إيران في إيجاد حلول إقليمية تعاونية. ومن جانب آخر، حالَ اختزال منطلقات السياسات الإيرانية بالعامل الاقتصادي من دون نجاح حملة «الضغوط القصوى» التي طبقتها الإدارة الجمهورية على إيران على مرّ الأعوام الثلاثة الماضية؛ إذ لم تتمكن من ثني النظام السياسي عن مواقفه حيال الملفات الخلافية العالقة، رغم كل الضغوط الاقتصادية على الشارع. أما المقاربات الإقليمية لحلّ العقدة الإيرانية، فظلّت تُعاني من تجاهُل ازدواجية نظام الحكم في إيران، وعدم إدراك طبيعة العلاقات بين مؤسسة الحكومة، ومؤسسة الدولة العميقة؛ ما جعل من مشاريع الحلّ الإقليمية المطروحة مشاريع خاوية، ومستندة فقط إلى مُقترحات التهدئة، وحُسن النية.
لا شكّ أن المتضرّر الرئيسي من استمرار العُقدة الإيرانية هو الجانب الخليجي، بوصفه الجار الأقرب لإيران التي ترى منطقة الشرق الأوسط مَرْتعاً لبرامجها التوسُّعية، وتنظر إلى الجوار الخليجي بوصفه محطّة للضغط على المجتمع الدولي، وعلى واشنطن تحديداً. مع ذلك تنظر دول الخليج العربية بقلق إلى محاولات تسوية الملف الإيراني، وهو ما يدعو للتساؤل بشأن أسباب هذا القلق:
لا يُخفي الجانب الخليجي خشيته من تكرار تجربة الاتفاق النووي حين تجاهلت الأطراف الدولية مصالح دول الخليج، وتوافقت مع طهران على ما يمكن وصفه بـ«عملية تهميش الجانب الخليجي». وإذا كانت المطالبات الخليجية بضرورة الوجود في أي مفاوضات مع إيران تُشير إلى هذا القلق، فإنَّ مواقف إيران الرافضة لإشراك الخليج في أي مفاوضات بينها وبين المجتمع الدولي تُظهِرُ استمرار الرغبة الإيرانية بتهميش الجانب الخليجي.
ومن جانب آخر، يخشى العرب من أن يؤدي رفع واشنطن يدها عن الملفات الإيرانية، في ضوء سياسة التعهيد (تخويل الحلّ للشركاء الإقليميين) إلى اختزال الحوار المفترض إجراؤه مع إيران بمجرّد حوارات ثنائية بين إيران وعدد من دول المنطقة كُلّ على حدة، أو – على الأكثر – مفاوضات إقليمية بحتة من دون إشراف وغطاء دولي؛ ما يعني بالضرورة أن هذه المسارات لن تؤدي إلى النتائج المرجوة. وتُظهِرُ التجربة التاريخية تفضيل إيران مثل هذه المسارات، في ضوء امتلاكها اليد العليا في أي مفاوضات إقليمية صِرفة، أو ثنائية، ناهيك عن ترجيح عدم التزام طهران مخرجات مثل هذه المفاوضات التي تخلو من أي ضمانات دولية مُلزمة للتطبيق.
بين كماشتَيْ هذه المخاوف المزدوجة، يتعيّن على المجتمع الدولي، والأطراف الخليجية ابتكار مُبادرات فاعلة، لحلّ العقدة الإيرانية، قبل أن تبلغ مرحلةً يمكن وصفها بمرحلة اللاعودة. وإذا كانت الدروب تبدو مُستعصيةً أمام مُبادرات الحلّ الشامل، في ضوء انعدام الثقة المتبادلة بين طهران وواشنطن، ومواقف إيران الحدّية الرافضة لمناقشة الملفات الإقليمية مع المجتمع الدولي، ورفض إشراك العرب في أي مفاوضات مع المجتمع الدولي، فإنَّ هذه المنطلقات نفسها، تفتح الباب أمام مُبادرة لمفاوضات إقليمية حول الملفات التي تشغل بال المجتمع الدولي والعربي على حدٍّ سواء، ومن ضمنها البرنامج الصاروخي، وبرنامج التوسع الإقليمي، مع الأخذ بعين الاعتبار المحدّدات الاستراتيجية التي حال تجاهلها – إلى الآن – من دون التوصل إلى حلّ عمليّ للعقدة الإيرانية.
ويتعيّن على هذه المبادرة الإقليمية أن تفتح الباب أمام إشراف القوى الكبرى، ومن ضمنها الولايات المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، وأطراف أخرى، للإشراف على المفاوضات، وضمان تطبيق مخرجاته، والالتزام بالاتفاقيات الناجمة عنه، عبر قرارات أمميّة مُساندة تتضمّن آليّةً قانونية مَرِنةً، تُشبه آليّة الزّناد (آلية فض الخلاف في الاتفاق النووي)، لكي تتجاوز مواطن ضعف مثيلاتها من المبادرات الإقليمية التي ترغب إيران في تطبيقها.
ويتعين على المجتمع الدولي إذا أراد فعلاً تجاوز العقبات القائمة على صعيد حلّ العقدة الإيرانية، أن يُعطي دوراً مركزيّاً في هذه المفاوضات للدول الخليجية، بوصفها المتأثر الأول من الملفَّيْن الخلافِيَّيْن الرئيسيين مع إيران (البرنامج الصاروخي، والتوسع الإقليمي)، وأن يدعم حواراً إقليميّاً حول القضايا العالقة، من دون أن يعني ذلك اختزال الحوار إلى المستوى الإقليمي البحت كما تقترح المبادرات المحلية القائمة، بل عبر توفير مِظلّة أممية أولاً، وتوفير إشراف، ومُساندة دولية ثانياً.
وتُشير المُعطيات الواقعيّة إلى جاهزيّة مختلف الأطراف للانخراط في مثل هذه المفاوضات. وأيّاً كان الطرف الذي يرعى المفاوضات، فإنَّه يتعيَّن عليه، وعلى الأطراف الخليجية، والدولية الداعمة له، أن يتجاوزوا الأخطاء الاستراتيجية التي حالت دون بلورة حلولٍ فاعلة للعُقدة الإيرانية في المحاولات السابقة. كما ينبغي عليهم تجاوز الفهم المُبسَّط السائد للنظام السياسي في إيران، باعتباره الفهم الذي حال – إلى الآن – دون تعاملٍ فاعلٍ مع النظام الإيراني، كما حال دون الوصول إلى فهم أعمق، يعي مستويات اتخاذ القرار في الملفات السياديّة، وتداخُل السياسي بالاقتصادي في نظام الدولة الإيرانية، ويحاول تجاوز النظرة الحدّية المؤدلجة للدولة العميقة، ويُحسن التعامل مع مراكز القوة التي تمتلك زمام المُبادرة في الملفات الخلافيّة.
مثل هذا الوعي بالمُحدّدات الاستراتيجية، وبطبيعة نظام الدولة في إيران، سيكون كفيلاً بتجاوز أنصاف الحلول والحلول العقيمة إلى عتبة الحلّ الجدّي للعقدة الإيرانية. ولا شكّ أنّ تضافر الجهود بين الجانب الخليجي الذي يرغب النظام الإيراني بالانخراط في حوار معه حول الملفات الخلافية الإقليمية، والجانب الدولي الذي تربطه شراكات قوية بدول الخليج سيكون كفيلاً بإخراج الحوار مع إيران من دائرة محاولات شراء الوقت، عبر وضع آليات زمنية مُلزمة للجانبين، وكفيلاً أيضاً بضمان تطبيق مُخرجات المفاوضات، عَبْر قراراتٍ وآلياتٍ صادرة عن «مجلس الأمن الدولي».
من دون الوصول إلى حلّ للعقدة الإيرانية ستحمل الأعوام المقبلة مزيداً من عدم الاستقرار المُكلِف، واستمراراً لدوّامة العُنف الناجم عن البرامج التوسُّعيّة، كما أنَّ تفادي حلّ العقدة في الفرصة القائمة المواتية، قد يعني بلوغ المسألة الإيرانية حدّاً لا يمكن العودة عنه بسهولة. وإذا كان الجانب العربي بوصفه أوَّلَ المتضررين من استمرار العُقدة هذه، مُطالَباً أكثر من غيره بحلّها، فإنَّ الحلَّ يستلزم التحلّي بنظرة استراتيجية، والتعامل بدقة، وواقعية مع النظام السياسي في إيران، كما يستلزمُ إرادةً قويّةً من صانع القرار الخليجي، ومزيداً من التناغم والتنسيق بين الجانب الخليجي وشركائه العالميّين. أمَّا النتيجة فيُفتَرض أن تكون اتفاقيةً تعمل على تقريب النظام السياسي في إيران خطواتٍ إلى حالة الدولة الطبيعية، بوصفها الحالة التي يستفيد منها الخليج، والمجتمع الدولي، كما تستفيد منها إيران التي أنهكتها الضغوط.
نقلا عن “الشرق الأوسط”