أهم الأخبارتقارير

جغرافيا التمايز وتمدين الازدراء: نقد المدينة في إيران الحديثة

يتناول الدكتور عماد المزرعاوي في دراسته المعنونة بـ”جغرافيا التمايز وتمدين الازدراء” تحول المدينة في الأحواز من مجرد حيّز عمراني إلى مشروع أيديولوجي لإعادة تشكيل الهوية الأحوازية ضمن خطاب السلطة الإيرانية الحديثة. من خلال تفكيك هذا التحول، تكشف الدراسة عن أن المدينة الإيرانية الحديثة لم تكن حيادية في تخطيطها، بل كانت أداة لخلق “آخر” جغرافي وثقافي، وإنتاج فضاءات خاضعة لهرمية الهوية والانتماء.

المدينة كأداة لإعادة تشكيل الهوية
يبدأ المزرعاوي في دراسته التي نشرتها مجلة النوابت الاحوازية ونقلها معهد الحوار، من فرضية أن المدينة ليست مجرد عمران بل خطاب مهيمن، حيث لا يُعاد فيها إنتاج الفضاء فقط، بل يُعاد تشكيل الإنسان وهويته وتصوراته الذاتية. إذ شهدت الأحواز عقب الاحتلال الإيراني، عملية “تمدين” كانت في جوهرها هندسة اجتماعية لسلخ العرب الأحوازيين عن بيئتهم الثقافية واللغوية الأصلية، واستبدالها بنموذج فارسي حضري “نقي”.

خرائط الحذف والإحلال
يركز الباحث على التحولات الجغرافية في الخرائط الهيكلية، التي أعدت في الستينيات، كأدوات لإعادة رسم واقع غير موجود.
فالأحياء العربية القديمة (كالعامرية والخزعلية) شُطبت من الخريطة واستُبدلت بأحياء “حديثة” مثل كيانبارس وزيتون كارمندي، لتُصنَّف الأولى على أنها “الهامش” والثانية على أنها “المركز”. وهنا يتضح كيف يُحوّل التخطيط العمراني إلى مشروع لإنتاج الجغرافيا المتخيلة التي تقصي الواقع وتحل محله.

حدود الخجل وحدود التمايز
من خلال تحليل الحدود النفسية والثقافية بين الأحياء، يتحدث الكاتب عن مفهوم “حدود الخجل المتخيل”، وهي حدود غير مرئية لكنها حاضرة في الوعي الجمعي، تميز بين الأحياء “المعترف بها حضرياً” وتلك “المهمشة”. اجتياز هذه الحدود يتطلب تغيّرًا في السلوك واللغة والانتماء. إذ تفرض هذه المساحات تصورًا أخلاقيًا ومعرفيًا يجعل من الأحياء العربية مرآةً “للتخلف” والانحطاط.

الخطاب الحضري كمشروع للهيمنة
يرى المزرعاوي أن مجمل الأدبيات الفارسية التي درست “سكان الهامش” قد شاركت – بوعي أو دون وعي – في إعادة إنتاج خطاب الإقصاء، من خلال وصم تلك الأحياء بتوصيفات كالـ”عشوائية”، و”غير المخططة”، والـ”متخلفة”، دون مساءلة المنطق السلطوي الذي أنتج تلك المفاهيم. فالمدينة الحديثة تُعيد تعريف الآخر وتثبيته بوصفه غريبًا وشاذًا، وتبرر إقصاءه تحت مظلة الحداثة.

جغرافيا قابيل وإمبراطورية النص
ينتقل التحليل من الجغرافيا إلى النص، ليبين كيف أن إنتاج المعرفة حول الأحياء الهامشية تحوّل إلى “إمبراطورية نصية” سلطوية. فالدراسات والبحوث التي تناولت هذه الأحياء لم تكن محايدة، بل صاغت سكانها كـ”مشروع جنائي” أو “مشكلة حضرية”، لتبرير القمع والتهميش باسم التقدم، كما في وصفها بـ”أحياء الجريمة” و”اللاعقلانية” و”الطابع غير الحضري”.

الدولة وخطابها المعماري
توضح الدراسة أن الدولة الإيرانية استخدمت مؤسساتها (الجامعات، البلديات، مراكز البحوث) لترسيخ خطاب التمايز، فالقوانين مثل قانون “تحديث وإعمار الأحياء” ومشاريع تخطيط المدن، عملت على “تجريم” الأحياء القديمة وتدميرها عبر أدوات رسمية، ومن ثم تسويق الأحياء الحديثة كمراكز “المدنية”. ولم يقتصر التهميش على البنية العمرانية، بل امتد إلى السلوك واللغة، حيث بات التحدث بالعربية أو حمل ملامح الهوية غير الفارسية دليلًا على “التأخر”.

الطوبوغرافيا الهوياتية ومقاومة المدينة الحديثة
يرى المزرعاوي أن المدينة الحديثة الإيرانية قد أسست لـ”طوبوغرافيا هوياتية” تحدد فيها قمم وسفوح المجتمع وفق الانتماء العرقي واللغوي. فالهوية تُبنى وفق الجغرافيا، والجغرافيا تُرسم وفق الهوية المقبولة. وهذا ما يجعل مقاومة هذه المدينة الحديثة تتجاوز العمارة إلى مقاومة رمزية وثقافية، تتحدى التمييز، وتطالب بإعادة الاعتراف بالجغرافيا الحية قبل تزويرها.

التوصيات :
إعادة التفكير في التخطيط الحضري كأداة سياسية: التخطيط ليس تقنيًا فقط، بل أداة لإنتاج السلطة وإعادة تشكيل الهوية.

تحليل الخطاب المدني بلغة نقدية: ضرورة كشف المستويات اللاواعية للتمييز في الخطاب الأكاديمي والسياسي.

تبني مصطلحات بديلة أكثر عدالة: مثل “الأحياء المقاومة” أو “الأحياء العربية”، بدلاً من “الهامش” أو “العشوائيات”.

دعم الدراسات المضادة للخطاب المهيمن: تشجيع الأبحاث التي تركز على تجارب السكان الأصلانيين وممارساتهم الحضرية الأصيلة.

إن دراسة الدكتور عماد المزرعاوي تُعدّ مساهمة نوعية في حقل الجغرافيا النقدية، لما تقدمه من تحليل عميق لمفهوم “التمدين” كممارسة استعمارية داخلية.
كما تكشف عن تناقض المدينة الحديثة الإيرانية، التي في سعيها لفرض نموذج حضاري موحد، قامت بمحو تنوعها الداخلي وتاريخها المحلي، جاعلة من التمايز أداة للسيطرة، لا للاعتراف.

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى