المشروع الأميركي الجديد في العراق
ماجد السامرائي
تواصل الحديث هذه الأيام حول وجود مشروع أميركي جديد في العراق يؤدي إلى تغيير شامل على الطريقة الأميركية يتم تنفيذه بوسائل استخبارية بريطانية. مصادر هذا الحديث قنوات ومواقع عراقية وعربية وعالمية أميركية، بينها مواقع لا تمانع في المجاهرة بالانتساب إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، (الجناح العراقي الجديد المنشق عن الجناح الأصلي)، المقصود صلاح المختار الذي يصدر حالياً حسب بعض المصادر جريدة “البعث”، لا علاقة لها بالتجربة النضالية الأولى لمؤسسي البعث ميشيل عفلق وصلاح البيطار في إصدارهما العدد الأول الذي مهد للتأسيس الرسمي للبعث وقيام المؤتمر التأسيسي الأول. لا نريد هنا مناقشة التطورات الحاصلة داخل البعث إلا بمقدار حديثنا المتعلق بصدى سيناريو التغيير المتوقع في الشأن العراقي.
ملاحظة مهمة، ينبغي التنويه إليها متعلقة بالترويج الأخير أنه مختلف في أهدافه، من حيث الكمّ والنوع، عمّا تم الترويج له قبل سنوات قليلة بسبب ردود فعل إعلان واشنطن التخلي عن العراق وأفغانستان والمنطقة. عملياً هو الخروج المسلح من أفغانستان وتسليم الحكم للفصائل الأفغانية المسلحة، التي حاربتها تحت عنوان عريض كبير ما زال المسؤولون الأميركان يروجون له هو محاربة الإرهاب والقاعدة، الابنة البِكر للعصابات الأفغانية التي يعترف بها اليوم المجتمع الدولي، كذلك القرار المنتقَد من قادة البنتاغون ووزيرها خروج القوات الأميركية بضغوط إيرانية، وقرار من الرئيس السابق باراك أوباما بالانسحاب من العراق عام 2011.
بعد تردّي الأوضاع في العراق وتصاعد أزمته، تصاعدت دعوات جهات أميركية كثيرة بينها مراكز بحوث قريبة من صناع القرار الأميركي بضرورة إجراء تعديلات على الإستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، لكن سياسة الساندويتش الفضائحي دونالد ترامب بين باراك أوباما وجو بايدن هي مفتاح العقدة في سياسة واشنطن تجاه طهران، رغم أنه حقق بجرأة أكبر إنجاز وهو قتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني ومساعده أبومهدي المهندس. بفقدان سليماني تفككت القوة الكامنة في الحرس الثوري في المنطقة، وأصبحت سياسة علي خامنئي بعدها ضائعة ما بين اللعب المدفون والمكشوف.
سياسة أوباما ظلّت فاعلة تحت قيادة ابنه البار بايدن، تتركز على نفس المسار بعدم إزعاج حكام طهران، ظهر ذلك سابقا كفقرة من فقرات سيناريو مسار المشروع النووي، ثم بصورة مباشرة في ملف سلاح الحرس الثوري ومشروعية هيمنته على منطقة العراق والخليج العربي.
السيناريو الجديد المقترح له هدف سريع أوّلي ينهي الوجود المتعاظم للميليشيات المسلحة الولائية عن طريق إسقاط عناصرها المجرمة بطرق وأساليب بدائية تقترب أو تشبه ما كان يمارسه الرعاع في عملية تغيير الأنظمة أعوام 1958 وما بعدها. لكن تفصيلات هذا المشروع المفترض لم تظهر لا في السيناريو المفترض الأول ولا الحالي، كلاهما من وجهة نظرنا في حاجة إلى توضيحات أكثر قرباً من الحالة النفسية العراقية المُستفزة أصلاً لطمأنتها وعدم تحليقها في نجوم الخيال المُحبِط فيما بعد، وهي إحدى قنوات محاربة شعب العراق.
الجانب السياسي المحلي المهم الذي يعزز فكرة الترويج لسيناريوهات جديدة، كما في موجة العلاقات الدبلوماسية المُكثفَة للسفيرة الأميركية ألينا رومانوسكي في العراق، وقد يعود ذلك إلى طبيعتها النشطة في العلاقات العامة في تاريخ عملها القصير في الكويت، حيث تركت انطباعات سلبية لدى أوساط منظمات المجتمع المدني هناك رغم العلاقات المتطورة بين العاصمتين. وقد يرجع ذلك إلى أن وظيفتها السياسية جاءت في مرحلة خطيرة مقررة لها في بغداد لم تتضح معالمها بعد. لكن المفاجئ المناقض لأهداف السيناريو الجديد من قبل المراقبين لقاءاتها مع قيادات عصائب أهل الحق، رغم تصنيفها أميركياً كإحدى منظمات الإرهاب العالمية. لا يبدو ذلك مفاجئاً حين ترد فقرة في واحد من السيناريوهات بالضغط على الميليشيات للتخلي عن إيران والالتحاق بواشنطن. يقال إن نشاطات زعيم هذه المنظمة الحالية هي أن تحسين صورته تتم في هذا السياق.
ينبغي التنويه أن سياقات مشروع التغيير في العراق، رغم إصرار القائمين عليه، وكانوا قادة البيت الأبيض والبنتاغون والمخابرات، أن غرضه سياسي بأدوات عسكرية، لكنه لم يعرض للترويج عبر وسائل الإعلام ومراكز البحوث، إنما جرى الإقناع المرتبط بالتوافق الأيديولوجي على إيقاع أسطورة من يدعون أبناء يأجوج ومأجوج وملك بابل الجديد.
نشطت في الأشهر الأخيرة رسائل تشخيص الحالة العراقية الشعبية بعيداً عن التماهي مع سياسات الحكومات العراقية التي تخضع لتوجيهات طهران في مفاصل عدة أهمها تهريب الثروة العراقية وأموال البلد وتصاعد نشاطات مافيات السرقة، تصدر بين فترة وأخرى من منظمات وهيئات دولية رصينة من بينها ما صدر عن منظمة هيومن رايتس ووتش في بيانها العام عن الأوضاع في العراق بذكرى مرور عشرين عاماً على احتلال العاصمة العراقية بغداد، بأن النتائج المباشرة.
لذلك الاحتلال دفع ثمنها الأكبر الشعب العراقي بوقوع نصف مليون ضحية لتغيير النظام السابق وما تبعها من أحداث، إضافة إلى الملايين من النازحين وبنى تحتية مدمرة حتى الآن، إضافة إلى التخلّي المقصود عن عدم تعويض الضحايا ومحاسبة المسؤولين.
من غرائب المشاركين للأميركان في تدمير العراق عام 2003 وعجائبهم، منح أحدهم أعلى منصب حكومي عراقي بطلب ووصاية إيرانية – أميركية مشتركة هو برهم صالح “رئيس جمهورية العراق” السابق، حاول البقاء لمدة أخرى لكنه فشل لعدم رغبة الأكراد بترشيحه. هاجم برهم خلال تصريح لصحيفة “فورين بوليسي” الأميركية نشر في الرابع والعشرين من أبريل الماضي، العملية السياسية بعد عام 2003، موردا قائمة عوامل وصفها بالسلبية قادت إلى الوضع الحالي في البلاد، معترفا بسيطرة الفساد على مقدرات الدولة، وفشل النخبة السياسية بتحقيق آمال الشعب العراقي، مرددا عبارات الاستخفاف بعقول العراقيين “البلاد ما تزال تعاني حتى اللحظة من فشل في الإدارة وانتشار هائل للفساد، العراقيون ينتظرون العدالة وفوائد الديمقراطية التي يستحقون”. هذا أعلى مسؤول عراقي تنعّم بمزايا المنصب الشخصية معتقداً أن تبعيته للقومية الكردية وحديثه المسرحي باللغة العربية وحدها، وليس مطالب الشعب بحقوقه، هو ما يؤهله للترشح لتجديد حياة العملية السياسية العرجاء الحمقاء.
معهد بيو للبحوث الأميركية أكد أيضاً خلال تقرير أخير له أن العراق يعاني الآن من “أزمة نخبوية قد تتحول إلى شكل مميت إذا ما استمرت”، مشيرا إلى أن نظام المحاصصة الحالي ترك أثره الواسع والواضح في نشر الفساد؛ وإضعاف الدولة، والدفع إلى عمليات عنف سياسية، مشيرا إلى الاشتباكات التي وقعت بين أنصار التيار الصدري والأحزاب السياسية على أبواب المنطقة الخضراء، الأمر الذي توقّعت تكراره بشكل أكبر وأكثر دموية في حال استمرار النهج الحالي.
غالبية المنظمات الإنسانية العالمية شخصت الحالة العراقية بطريقة لم تتفق مع أصحاب مشروع تدمير العراق الذي أطلقوا عليه بفترتين متقاربتين خلال أيام القضاء على الدكتاتور ومنع حصول الكارثة العالمية بأسلحة الدمار الشامل، نفذت إدارة بوش ومن معه من اليمين المتطرف القسم التدميري الشامل الأولي عبر الاجتياح العسكري، بعد جهد أميركي جنوني بإقناع الدول الكبرى بالمشاركة بهذه الخطوة الجنونية، واحتلت العراق فقط بمشاركة الحاقد من اليسار البريطاني توني بلير الذي أدانه سياسيا الشعب البريطاني ولجنة تشيلكوت التي لم تنجز بيانها إلا بعد 13 عاما، لم يقدم سوى مسودة دفاع عن العدالة البريطانية واعترافا بأن ضحية تلك الحرب هو الشعب العراقي.
كان على التاريخ وما زال أن ينصف الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي فضح الأمر، وهو الزعيم الأوروبي الذي خاضت بلاده حربا طويلا إلى جانب بقية دول أوروبا للانتصار على الكهنوت الديني الذي حكم أوروبا، قرونا ليست قليلة ووضعها أسيرة التخلف، ثم انتصرت شعوب أوروبا وأقامت حكوماتها الديمقراطية العصرية رغم أن أميركا المدعية صانعة الديمقراطية المدنية الأولى أشاعت الاحتلالات العسكرية وقتل مئات الملايين من المدنيين مثل ما فعلته في فيتنام.
أخيرا، رغم مرارة التجارب في بلدان أميركا اللاتينية نصبت الحكام الدكتاتوريين بالقوة بعد إزاحة النظم الديمقراطية الناشئة؛ مثلا في تشيلي أزاحت سلفادور أليندي ونصبت الجنرال العميل أغوستو بونيشيه، بعد عشرين عاما نصبت مجموعة إسلاميين شيعة حكاما في العراق بعد إعدادهم على طرق الدسائس المحلية النافذة في العقول المتخلفة، ثم أساليب النهب والسرقة الحديثة في هذا البلد الفاقد لدولته. كانوا في حاجة إلى تفكيك المؤسسة الحكومية التي صنعوها تحت تسميات جديدة مغطاة بالتقديس المذهبي الممنوع المناقشة.
لسنا مع تحليل جريدة البعث الناطقة باسم صلاح المختار القائل بأن من تصدر هذا الترويج غالبيتهم من العناصر التي كانت تنتمي إلى ما سمّي بالمعارضة العراقية قبل غزو العراق، أي أنها عناصر شاركت في التهيئة لغزو العراق والتحريض عليه وبالتالي فإن المخابرات الأميركية والبريطانية تقفان وراء دفع هؤلاء إلى الترويج لتلك الأفكار خصوصا وأن هذه العناصر إما بعدت عن الوليمة ولم تحصل على ما كانت تتوقعه منها من منافع مادية ومواقع في الدولة، أو أن المخابرات الأميركية والبريطانية أبعدتها عمدا لكي تحتفظ بها للمرحلة القادمة.
حقيقة الواقع منذ عام 2003 هي أنه لم يتبق أحد من الساقطين ظل مضمونا لدى جهازي المخابرات الأميركية والبريطانية، الجميع غرقوا في سفينة الفساد والقتل وتدمير العراق. المشروع الأميركي الجديد ليس للعراق فقط، إنما لسوريا ولبنان واليمن وإيران والسعودية والأردن وإسرائيل بشبكة علاقات جديدة، الخطر فيها نجاة طهران خامنئي من العقوبات.
العرب اللندنية