مقالات
الكاظمي لحظة فارقة للعراق وإيران
عبدالوهاب بدرخان
كان فشل محاولة اغتيال مصطفى الكاظمي لحظة فارقة للعراق، كما لإيران، ولا شك أن إسماعيل قآني كان يفضل الوصول على عجلٍ الى بغداد ليشرف على هندسة “ما بعد الكاظمي” وما قبل الانسحاب الأميركي وفقاً لرؤية إيران وميليشياتها التي استحقّت أخيراً، وتلقائياً، اللقب المنطبق عليها منذ زمن: “جماعات إرهابية”. فهي انتهزت الحرب على تنظيم “داعش” لممارسة أسوأ أنواع الإرهاب ضد العراقيين مع اكتساب سمعة المساهمة في محاربته. ولما انتهت تلك الحرب وضع المحاربون الحقيقيون (فصائل المرجعية في “الحشد الشعبي”) أنفسهم حيث يجب أن يكونوا، في كنف القوات المسلّحة، في حين لجأت فصائل أخرى الى خدعة التحوّل الى “أحزاب سياسية” موالية لإيران وحصلت على مقاعد في برلمان 2018، أما الفصائل الولائية فاستبقاها “الحرس الثوري الإيراني” على الهامش للمهمّات القذرة أحياناً ضد القوات الأميركية وكل الأحيان ضد الدولة العراقية.
حاول قائد “فيلق القدس” في “الحرس” الإيحاء بأن طهران لم تكن على علمٍ بمحاولة الاغتيال، ولو علمت لما وافقت عليها، لكنها حصلت ولم تنجح. جاء قآني لتبرئة طهران أولاً، والجناة ثانياً، وبلغت روح الفكاهة السوداء عنده حدّ طلب “تحقيق تقني دقيق” لمعرفة الجهة المعتدية، وكأن إيران التي تزوّد ميليشياتها في لبنان وسوريا واليمن صواريخ وطائرات مسيّرة حرّمتها على ميليشياتها في العراق. نُقلت عن قآني “انتقادات” لمحاولة الاغتيال لم ترتقِ الى إدانة علنية، ولم يكن لكلامه هدف سوى تغطية الفشل وإحباط تداعياته على الموالين. والدليل أنه استُبق في طهران باتهام اعتباطي لـ “مراكز الفكر الأجنبية” حمل رايته الأمين العام لمجلس الأمن القومي علي شمخاني، وتولّى ناطق الخارجية توكيده. وظلّ هذا هو الموقف الرسمي. إيران تتّهم ولا تستنكر.
أدركت طهران أن أتباعها خسروا ويخسرون، بدءاً من “انتفاضة تشرين” ثم في الانتخابات ثم في رفض نتائجها وأخيراً في محاولة الاغتيال. أصبحوا متهمين وتجب محاسبتهم، وليس في تقاليد إيران وأتباعها تسليم أي مطلوب الى العدالة في أي دولة. لذلك سارعت طهران الى إرسال قآني لتأكيد أن معادلتها في العراق لن تتغيّر ولن تمسّ، وأنها تريد مَخرَجاً للميليشيات، لكن لقاء ماذا؟ لم يظهر أي أثر للتوافقات التي يُفترض أن الكاظمي وقآني تفاهما عليها، فحتى خفض التوتّر لم يتحوّل الى تهدئة، بل ظلّت الميليشيات تهدّد بالفوضى.
لذلك تكثر التساؤلات، ومنها مثلاً: هل أن الموقف الإيراني الملتبس من نتائج الانتخابات ينهي الاحتجاجات عليها، وهل تستطيع طهران القول أنها لا تتبنّى استعراضات ميليشياتها واستقواءها على الدولة العراقية، وهل تحترم هي نفسها هذه الدولة، وهل باتت تضمن حسن سلوك “أبو فدك المحمداوي” وقيس الخزعلي و”أبو آلاء الولائي” وغيرهم من القتلة المنفلتين، وهل أدركت أن الوقت حان لحلّ “كتائب حزب الله” و”عصائب أهل الحق” و”كتائب سيد الشهداء” لثبوت دورها في تخريب الاستقرار، ومتى ستعترف بأن فكرة الدولة تشق طريقها في القبول العراقي العام وفي مختلف البيئات خصوصاً الشيعية؟.. والأهم: هل أن جماعاتها الإرهابية هذه مخوّلة التهديد العلني لرئيس الوزراء العراقي واتخاذ قرار بقتله من دون التشاور مع قيادتها في “الحرس”، وباسم مَن ولمصلحة مَن تفعل ذلك؟
لمصلحة إيران وباسمها طبعاً. لا أحد يصدّق أن الميليشيات لم تتلقَّ ضوءاً أخضر لتقصف منزل الكاظمي بمسيّرات مفخخة. أما وقد فشلت في تحقيق هدفها فإنها تتحمّل وحدها النتائج، وأما وقد نجا الكاظمي ودعا فوراً الى التهدئة فإنه صار مُطالباً من مريديه وأنصاره وحلفائه المفترضين بمعاقبة الفاعلين، لكنه برهن مرّةً أخرى براغماتية مدهشة. بدا كأنه تخطّى الحدث ليكمل نهجه الذي، وإنْ لم يستجب التوقّعات التقليدية (اظهار القوّة واستخدامها للانتقام)، ساهم خلال عام ونيّف في اضعاف أتباع إيران وجاءته نتائج الانتخابات بالدليل. فهو تبنّى اجراء الانتخابات المبكّرة باعتبارها مطلب “انتفاضة تشرين” ولم تكن الأطياف الموالية لإيران أو المتعاطفة معها تؤيّد ذلك. ورغم التغيير الظاهري الطفيف في الخريطة السياسية أمكن للتصويت أن يقلّص نفوذ ميليشيات “الحشد الشعبي”، وأن يوزّع ناخبيها بين كتلتي مقتدى الصدر ونوري المالكي اللذين يحاولان توظيف ارتباطهما بإيران في إطار الدولة، بشكل ملتبس مع الصدر أو انتهازي مع المالكي. وفي الوقت نفسه بذل الكاظمي ما أمكنه لإبقاء القوات المسلحة حامية للدولة خارج الصراعات الداخلية وليست في خدمة أي طرف، تحديداً إيران.
عندما واجهت القوات المسلحة تظاهرة الخاسرين في الانتخابات عند بوابات المنطقة الخضراء كانت تقوم بدورها وواجبها. هذه المرّة الثانية التي يكون فيها الاقتراب من المنطقة الخضراء مُكلفاً، إذ سقط قتيلان للميليشيات في صدّ التظاهرة، وكاد يُقتل رئيس الوزراء انتقاماً. في المرّة السابقة، أواخر 2019، هوجمت السفارة الأميركية وبعد يومين اغتيل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس (القائد السابق لـ “كتائب حزب الله”) بمسيّرة أميركية. ويبدو أن ميليشيات إيران دخلت موسم مقايضات في كل مكان، ففي لبنان يريد “حزب الله” مقايضة التحقيق في انفجار المرفأ بالتحقيق في أحداث تظاهرة الطيّونة (سقط فيها سبعة قتلى للثنائي الشيعي)، وفي اليمن يسعى الحوثيون الى مقايضة وقف إطلاق النار مقابل توطيد سيطرتهم. أما في العراق فتطرح الميليشيات قضية استهداف الكاظمي مقابل معاقبة القوات المسلحة على قمع تظاهرتها، كذلك مقايضة “تصحيح” نتائجها في الانتخابات مقابل عدم ممانعة بقاء الكاظمي رئيساً للحكومة.
لكن، في العراق تحديداً، تعني المقايضات المقترحة أن الميليشيات مأزومة، وها هي ساهمت رغماً عنها في تعزيز حظوظ الكاظمي للبقاء في منصبه. ولن يكون مفاجئاً أن تضطرّ طهران للسير بهذا الخيار، إذ أنها مدركة استحالة تأمين توافق على “مرشحها”، فـ “البيت الشيعي” منقسم، وقآني ليس سليماني، أما الأيام التي استفردت فيها إيران بالعراق مع نوري المالكي فولّت ولن تعود. الكاظمي دشّن طريقاً ثالثاً، فهو ليس ضعيفاً يمكن تسييره ولا قويّاً على النمط الاستبدادي وإنما هو صاحب مصلحة عراقية، ليس رجلَ طهران ولا يعاديها لكنه يعرف الكثير عن سياساتها، ولا يصطدم بميليشياتها لكنه لن يتوانى عن ردعها إذا اختارت الفوضى وإشعال حرب أهلية… وفيما يواكب الخارج خطوات الكاظمي ويشجّعها ويتفهّم بطئها، لا يُلام الداخل إذ يتعجّل نتائجها لأن سخطه على الميليشيات بلغ ذروته.
* نقلا عن “النهار”