أهم الأخبارمقالات

التطرف الديني الباطني: المنطلقات الفكرية.. واستراتيجيات المواجهة

 

بقلم: سميرة رجب

بدعوة‭ ‬كريمة‭ ‬من‭ ‬معالي‭ ‬مفتي‭ ‬جمهورية‭ ‬مصر‭ ‬العربية،‭ ‬شاركت‭ ‬بهذه‭ ‬الورقة‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬مركز‭ ‬سلام‭ ‬لدراسات‭ ‬التطرف،‭ ‬المنعقد‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬في‭ ‬يونيو‭ ‬2022،‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬التطرف‭ ‬الديني‭: ‬المنطلقات‭ ‬الفكرية‭.. ‬واستراتيجيات‭ ‬المواجهة‮»‬؛‭ ‬ولظروف‭ ‬خاصة‭ ‬لم‭ ‬أتمكن‭ ‬من‭ ‬حضور‭ ‬المؤتمر‭ ‬لعرض‭ ‬ومناقشة‭ ‬ورقتي،‭ ‬وقررت‭ ‬نشرها‭ ‬للمزيد‭ ‬من‭ ‬التداول‭ ‬والاستفادة‭.‬

أود‭ ‬الإشارة‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬إلى‭ ‬أنني‭ ‬سوف‭ ‬أحاول‭ ‬تسليط‭ ‬الضوء‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الورقة‭ ‬على‭ ‬نوع‭ ‬محدّد‭ ‬من‭ ‬التطرف‭ ‬الديني‭ ‬أَسْميتُه‭ ‬‮«‬التطرف‭ ‬الديني‭ ‬الباطني‮»‬،‭ ‬وأقصد‭ ‬به‭ ‬فئة‭ ‬محددة‭ ‬من‭ ‬فئات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي،‭ ‬مع‭ ‬تأكيد‭ ‬الفصل‭ ‬بين‭ ‬التيارات‭ ‬الدينية‭ ‬السياسية‭ ‬والعقائد‭ ‬المذهبية‭ ‬الأصيلة‭.‬

وما‭ ‬حدا‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬الاهتمام‭ ‬بهذه‭ ‬الفئة‭ ‬تحديداً‭ ‬ضمن‭ ‬موضوع‭ ‬التطرف‭ ‬الديني‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬هو‭ ‬ملاحظتي،‭ ‬كباحثة‭ ‬وككاتبة‭ ‬وكسياسية،‭ ‬أن‭ ‬مراكز‭ ‬الفكر‭ ‬والبحوث‭ ‬والدراسات،‭ ‬وحتّى‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام،‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تهتم‭ ‬بتطرف‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬طائفة‭ ‬دينية‭ ‬واحدة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬البعد‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬جزءًا‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬مجمل‭ ‬التطرف‭ ‬الديني،‭ ‬هو‭ ‬مغيّب،‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى،‭ ‬ضمن‭ ‬فضاء‭ ‬النقاش‭ ‬والبحث‭ ‬والدراسة‭ ‬في‭ ‬مجاله،‭ ‬علماً‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يتميز‭ ‬به‭ ‬هذا‭ ‬البعد‭ ‬الباطني‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬وعقائد‭ ‬يعد‭ ‬الأكثر‭ ‬ديمومة‭ ‬وتواصلاً‭ ‬في‭ ‬حلقات‭ ‬مستمرة‭ ‬منذ‭ ‬قرون،‭ ‬والأكثر‭ ‬حقداً‭ ‬ضد‭ ‬العرب،‭ ‬والأكثر‭ ‬خطراً‭ ‬ضد‭ ‬الإسلام‭ ‬والمسلمين،‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬مجمل‭ ‬أنواع‭ ‬التطرف‭ ‬المعلن‭ ‬أمامنا‭ ‬من‭ ‬الحركات‭ ‬والأحزاب‭ ‬والتنظيمات‭ ‬الدينية‭ ‬السياسية‭ ‬الأخرى‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬أرجو‭ ‬ألا‭ ‬ينسب‭ ‬هذا‭ ‬الطرح‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬نزعة‭ ‬‮«‬طائفية‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬دَأْب‭ ‬اصحاب‭ ‬التطرف‭ ‬الباطني،‭ ‬بهدف‭ ‬ترهيب‭ ‬الباحثين،‭ ‬وتجريم‭ ‬وتحريم‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬الخطير‭. ‬إذ‭ ‬يُحتِّم‭ ‬علينا‭ ‬الواقع‭ ‬العربي‭ ‬السيئ‭ ‬دراسة‭ ‬ظاهرة‭ ‬التطرف‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬شكلها‭ ‬الكلي‭ ‬الشامل‭ ‬المتكامل،‭ ‬أفقياً‭ ‬وعمودياً،‭ ‬أي‭ ‬بمختلف‭ ‬أبعادها‭ ‬وأشكالها،‭ ‬والتعمّق‭ ‬في‭ ‬تفاصيلها،‭ ‬وعدم‭ ‬اقتصار‭ ‬البحوث‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬العموميات،‭ ‬أو‭ ‬الاهتمام‭ ‬بجزء‭ ‬من‭ ‬عموم‭ ‬الموضوع‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الأجزاء‭ ‬الأخرى،‭ ‬لتكتمل‭ ‬لدينا‭ ‬الصورة‭ ‬المعرفية‭ ‬بخبايا‭ ‬التطرف‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬عموم‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭.‬

1‭. ‬التطرف‭ ‬الديني‭ ‬ظاهرة‭ ‬قديمة‭ ‬حديثة‭ ‬وكونية

يُعتبر‭ ‬التطرف‭ ‬الديني‭ ‬ظاهرة‭ ‬اجتماعية‭ ‬وسياسية‭ ‬خطيرة،‭ ‬ابتليت‭ ‬بها‭ ‬البشرية‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬تاريخ‭ ‬الأديان،‭ ‬ولم‭ ‬تسلم‭ ‬منها‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬شعوب‭ ‬العالم‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬دياناتها‭ ‬ومعتقداتها‭. ‬وتطورت‭ ‬ممارسات‭ ‬هذا‭ ‬التطرف‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭ ‬ضمن‭ ‬أطر‭ ‬فكرية‭ ‬وممارسات‭ ‬سلوكية‭ ‬مختلفة،‭ ‬وباستخدام‭ ‬أدوات‭ ‬ومظاهر‭ ‬متعدّدة‭… ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬استغلاله‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬بواسطة‭ ‬أطراف‭ ‬خارجية،‭ ‬لها‭ ‬مصالح‭ ‬في‭ ‬استثمار‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التطرف‭ ‬العقائدي‭ ‬الأخطر‭ ‬أمنياً‭ ‬وحضارياً،‭ ‬لصالح‭ ‬الخطط‭ ‬الاستعمارية‭ ‬والتوسعية‭ ‬والهيمنة،‭ ‬وبشكل‭ ‬خاص‭ ‬في‭ ‬منطقتنا‭ ‬العربية‭.‬

وهنا‭ ‬نرى‭ ‬ضرورة‭ ‬تأكيد‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬التطرف‭ ‬الديني،‭ ‬كممارسة‭ ‬اجتماعية‭ ‬وسياسية،‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بالدين،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬ممارسة‭ ‬اجتماعية‭ ‬أو‭ ‬سياسية،‭ ‬أو‭ ‬الاثنان‭ ‬معا،‭ ‬يتم‭ ‬من‭ ‬خلالهما‭ ‬توظيف‭ ‬الدين،‭ ‬والمقدس،‭ ‬واستغلال‭ ‬رمزيتهما‭ ‬من‭ ‬قِبَل‭ ‬مَن‭ ‬يدّعون‭ ‬الإيمان‭ ‬لبسط‭ ‬الهيمنة‭ ‬على‭ ‬عموم‭ ‬المجتمع،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شرعنة‭ ‬التعصب،‭ ‬وحقهم‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬السلطة‭ ‬وفرض‭ ‬الثواب‭ ‬والعقاب‭ ‬تحت‭ ‬ستار‭ ‬القدسية‭ ‬الرمزية‭.‬

ومّما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬ظاهرة‭ ‬التطرف‭ ‬شأنا‭ ‬بشريا‭ ‬بالأساس،‭ ‬هو‭ ‬نزعة‭ ‬ميل‭ ‬الإنسان‭ ‬منذ‭ ‬الأزل‭ ‬إلى‭ ‬الغلو‭ ‬والعصبية‭ ‬في‭ ‬الطرح،‭ ‬بالرغم‭ ‬مما‭ ‬تزخر‭ ‬به‭ ‬الكتب‭ ‬السماوية‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬التسامح‭ ‬والرحمة‭ ‬والحكمة‭. ‬ولا‭ ‬نحتاج‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬إلى‭ ‬التذكير‭ ‬بتاريخ‭ ‬وقائع‭ ‬التطرف‭ ‬الديني‭ ‬وتداعياته‭ ‬الكارثية‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬بها‭ ‬معظم‭ ‬الشعوب‭ ‬ومع‭ ‬جميع‭ ‬الأديان،‭ ‬ونكتفي‭ ‬بالتذكير‭ ‬بما‭ ‬مر‭ ‬به‭ ‬الغرب‭ ‬من‭ ‬تخلفٍ‭ ‬حضاري‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬قرونٍ‭ ‬عدة‭ ‬بسبب‭ ‬التطرف‭ ‬الديني‭ ‬المسيحي‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى،‭ ‬والذي‭ ‬يعد‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬النماذج‭ ‬الدموية‭ ‬البشعة‭ ‬للتطرف‭ ‬الديني،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الحكم‭ ‬للرهبان،‭ ‬دون‭ ‬رقابة‭ ‬أو‭ ‬مساءلة،‭ ‬تحت‭ ‬مظلة‭ ‬‮«‬القدسية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أسبغوها‭ ‬على‭ ‬أنفسهم‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬شرعية‭ ‬الحكم‭ ‬وامتلاك‭ ‬زمام‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬القصر‭ ‬والكنيسة،‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬والدين،‭ ‬وفي‭ ‬شؤون‭ ‬الدنيا‭ ‬والآخرة‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬التاريخي،‭ ‬شهدَت‭ ‬جميع‭ ‬الفرق‭ ‬الدينية‭ ‬بدون‭ ‬استثناء‭ ‬صراعات‭ ‬دامية‭ ‬بين‭ ‬مناصريها‭ ‬بادعاء‭ ‬امتلاك‭ ‬الحقيقة،‭ ‬المبني‭ ‬أساسا‭ ‬على‭ ‬التعصب‭ ‬الفكري‭ ‬والعقائدي،‭ ‬وانقسم‭ ‬المناصرون‭ ‬إلى‭ ‬فرق‭ ‬ومذاهب،‭ ‬يروجون‭ ‬لحقيقتهم‭ ‬الواحدة،‭ ‬ويعتبرون‭ ‬مَن‭ ‬يخالفهم‭ ‬في‭ ‬الرأي‭ ‬منحرفين‭ ‬وجب‭ ‬تصويبهم‭ ‬بالأدوات‭ ‬المناسبة،‭ ‬التي‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬القتل،‭ ‬طبقا‭ ‬لفكر‭ ‬وعقيدة‭ ‬هذه‭ ‬الفرقة‭ ‬أو‭ ‬تلك‭.‬

فالديانة‭ ‬اليهودية‭ ‬شهدت‭ ‬ظهور‭ ‬فرق‭ ‬متناقضة‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬منها‭ ‬‮«‬الهاسكالاه‮»‬‭ ‬المتمسكة‭ ‬بفكر‭ ‬تغيير‭ ‬المعتقدات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتماشى‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭ ‬كحركة‭ ‬دينية‭-‬علمانية‭ ‬متطرفة‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬إنشاء‭ ‬أول‭ ‬حركة‭ ‬سياسية‭ ‬متطرفة‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬تحرر‭ ‬اليهود‮»‬؛‭ ‬و«الحريديم‮»‬‭ ‬الأكثر‭ ‬تمسكا‭ ‬بأصولية‭ ‬الكتب‭ ‬المقدسة‭… ‬كما‭ ‬شهدت‭ ‬الديانة‭ ‬المسيحية‭ ‬اختلافات‭ ‬عميقة‭ ‬في‭ ‬الطرح،‭ ‬أفرزت‭ ‬ثلاث‭ ‬طوائف‭ ‬كبرى‭ (‬الكاثوليكية‭/ ‬الأرثوذوكسية‭/ ‬البروتستانتية‭)‬،‭ ‬وطوائف‭ ‬صغرى‭ ‬منشقة‭ ‬عنها‭. ‬

أما‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يهمنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الورقة،‭ ‬فإنه‭ ‬عاصر‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الفرق‭ ‬والحركات‭ ‬المتطرفة‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬تاريخه‭. ‬ولم‭ ‬تخل‭ ‬جُل‭ ‬تلك‭ ‬الصراعات‭ ‬من‭ ‬تدخلات‭ ‬خارجية،‭ ‬كانت‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬لها‭ ‬طموحات‭ ‬التوسع‭ ‬بأراضي‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬منذ‭ ‬خُلِقَت‭ ‬الطموحات‭ ‬الامبراطورية‭ ‬وصراعات‭ ‬القوة،‭ ‬فكانت‭ ‬سبباً‭ ‬في‭ ‬فرز‭ ‬أنواع‭ ‬من‭ ‬الفرق‭ ‬والحركات،‭ ‬والعصبيات‭ ‬العقائدية‭ ‬المتطرفة،‭ ‬والتطرف‭ ‬حول‭ ‬المذاهب‭ ‬والطوائف،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬صعود‭ ‬ظاهرة‭ ‬التمترس‭ ‬خلف‭ ‬عقائد‭ ‬مستحدثة‭ ‬لفريقين‭ ‬رئيسيين‭ ‬بمسميات‭ ‬وعقائد‭ ‬مؤدلجة‭ ‬منسوبة‭ ‬مذهبياً،‭ ‬وهي‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬عن‭ ‬الدين‭ ‬والفقه‭ ‬الأصيل‭ ‬للمذاهب‭. ‬ولا‭ ‬يزال،‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬يعاني‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمون‭ ‬من‭ ‬الانعكاسات‭ ‬الكارثية‭ ‬لهذا‭ ‬الشرخ‭ ‬الديني‭ ‬السياسي‭ ‬المتطرف‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬المستويات،‭ ‬وبالأخص‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬تقويض‭ ‬وحدة‭ ‬الأمة‭ ‬ومحاولات‭ ‬تصعيد‭ ‬نزيف‭ ‬الصراعات‭ ‬والاقتتال‭ ‬الداخلي‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬عموما‭.‬

2‭. ‬التطرف‭ ‬الديني‭ ‬الباطني‭- ‬البعد‭ ‬التاريخي

يقول‭ ‬خطيب‭ ‬روما‭ ‬القديمة‭ ‬شيشرون‭: ‬‮«‬مَن‭ ‬لا‭ ‬يقرأ‭ ‬التاريخ‭ ‬يبقى‭ ‬أبد‭ ‬الدهر‭ ‬ولداً‭ ‬صغيراً‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬يتفحص‭ ‬ويقرأ‭ ‬الكوارث‭ ‬التي‭ ‬تحل‭ ‬على‭ ‬أمتنا‭ ‬منذ‭ ‬قرون‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬سيصل‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬حتمية‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬العرب‭ ‬أمة‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬وآليات‭ ‬استشراف‭ ‬المستقبل‭ ‬والتخطيط‭ ‬له،‭ ‬وإنها‭ ‬أمة‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬الفعل‭ ‬ورد‭ ‬الفعل‭ ‬الآني،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬قراءة‭ ‬سليمة‭ ‬وعميقة‭ ‬للحاضر‭ ‬والماضي‭ ‬ورؤية‭ ‬استراتيجية‭ ‬للمستقبل،‭ ‬لأنها‭ ‬أمة‭ ‬لم‭ ‬ولا‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬تاريخها،‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬التاريخ‭ ‬وسبر‭ ‬أغواره‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬بناء‭ ‬منظومة‭ ‬معرفية‭ ‬متكاملة‭ ‬حول‭ ‬المشاريع‭ ‬التي‭ ‬تستهدفها‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬العصور‭ ‬المتلاحقة‭. ‬

وهنا‭ ‬سأتناول‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تناوله‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المساحة‭ ‬القليلة،‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬مناسباً‭ ‬لبناء‭ ‬قاعدة‭ ‬معرفية‭ ‬بسيطة،‭ ‬حول‭ ‬البعد‭ ‬التاريخي‭ ‬لحركات‭ ‬التطرف‭ ‬الديني‭ ‬الباطني،‭ ‬التي‭ ‬استهدفت‭ ‬العرب‭ ‬والإسلام‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬تاريخ‭ ‬طويل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نحدد‭ ‬بداياته‭ ‬الخطيرة‭ ‬بفترة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬الرسول،‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬مباشرة،‭ ‬إلا‭ ‬أننا‭ ‬سنتجاوز‭ ‬ذلك‭ ‬لنمسك‭ ‬بخيوط‭ ‬التطرف‭ ‬الأكثر‭ ‬زعزعة‭ ‬للأمة،‭ ‬وهو‭ ‬تطرف‭ ‬‮«‬الحركة‭ ‬الشعوبية‮»‬‭ ‬كحركة‭ ‬باطنية‭ ‬بكل‭ ‬أبعادها‭ ‬الدينية‭ ‬والسياسية‭ ‬والثقافية،‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬تحديث‭ ‬وتوريث‭ ‬معتقداتها‭ ‬لأجيال‭ ‬متعاقبة‭ ‬ومستمرة‭ ‬منذ‭ ‬أربعة‭ ‬عشر‭ ‬قرناً،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬الخلافة‭ ‬الأموية‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭. ‬

كثيراً‭ ‬ما‭ ‬يتجاهل‭ ‬الباحثون‭ ‬أثر‭ ‬الحركة‭ ‬الشعوبية‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬العربية،‭ ‬ويعجزون‭ ‬عن‭ ‬ربطها‭ ‬بما‭ ‬يهُب‭ ‬على‭ ‬منطقتنا‭ ‬من‭ ‬عواصف‭ ‬طائفية‭ ‬متطرفة‭ ‬ودامية‭ ‬تحملها‭ ‬رياح‭ ‬الشرق‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬حدود‭ ‬وطننا‭ ‬الكبير‭. ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬يُنسب‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التجاهل‭ ‬والعجز‭ ‬في‭ ‬تتبع‭ ‬أثر‭ ‬تلك‭ ‬الحركة،‭ ‬في‭ ‬الأغلب،‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تتميز‭ ‬بها‭ ‬الشعوبية‭ ‬من‭ ‬عقائد‭ ‬وآيديولوجيات‭ ‬وآليات‭ ‬باطنية‭ ‬عالية‭ ‬السرية،‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬تداول‭ ‬أسس‭ ‬وقواعد‭ ‬روابطها‭ ‬الزمنية‭ ‬أفقياً،‭ ‬والعقائدية‭ ‬عمودياً،‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬القائمين‭ ‬على‭ ‬قيادتها،‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬أو‭ ‬الحزب‭ ‬أو‭ ‬الدولة‭.‬

لقد‭ ‬نجح‭ ‬الشعوبيون،‭ ‬بأدواتهم‭ ‬الباطنية‭ ‬المُحكَمَة،‭ ‬في‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬صيرورة‭ ‬التغيير‭ ‬في‭ ‬مظاهر‭ ‬وأشكال‭ ‬حركتهم‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬صيرورة‭ ‬بقائها‭ ‬واستمرارها‭. ‬والتغيير‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أدوات‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬لتناسب‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬الذي‭ ‬تعمل‭ ‬فيه‭. ‬والجهة‭ ‬الأخرى‭ ‬تملك‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬مسمياتها‭ ‬في‭ ‬أنماط‭ ‬وكيانات‭ ‬متعددة،‭ ‬بهدف‭ ‬خلط‭ ‬الأوراق‭ ‬وفشل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬نتائج‭ ‬مادية‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬دراسة‭ ‬أو‭ ‬بحث‭ ‬حول‭ ‬اصولها‭ ‬وأهدافها‭ ‬وآيديولوجياتها؛‭ ‬إذ‭ ‬تعتمد‭ ‬الشعوبية‭ ‬على‭ ‬إخفاء‭ ‬تطرفها‭ ‬العقائدي‭ ‬والدموي‭ ‬العنيف‭ ‬خلف‭ ‬ما‭ ‬تُعلن‭ ‬من‭ ‬عقائد‭ ‬ومبادئ‭ ‬التسامح‭ ‬و«حوار‭ ‬المذاهب‮»‬‭ ‬لسلب‭ ‬العقول‭ ‬والقلوب،‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬كيانها‭ ‬العقائدي‭ ‬السياسي‭ ‬الرئيسي‭ ‬سليماً‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تعاقب‭ ‬انماط‭ ‬أنظمة‭ ‬الحكم،‭ ‬والسياسات‭ ‬والآيديولوجيات،‭ ‬التي‭ ‬عاصرتها‭ ‬منطقتنا‭ ‬العربية‭ ‬عموماً‭. ‬

3‭. ‬التطرف‭ ‬الديني‭ ‬الباطني‭ ‬وأصوله‭ ‬الشعوبية

في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الجذور‭ ‬التاريخية‭ ‬للشعوبية‮»‬‭ (‬1961‭) ‬يؤكد‭ ‬المؤرخ‭ ‬العربي‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الدوري‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬الحركة‭ ‬الشعوبية‭ ‬شديد‭ ‬التعقيد،‭ ‬وكأنه‭ ‬بذلك‭ ‬يؤكد‭ ‬صفتها‭ ‬الباطنية‭ ‬الخطيرة،‭ ‬ويعَرّف‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬محاولات‭ ‬شعوب‭ ‬غير‭ ‬عربية‭ ‬لضرب‭ ‬السلطان‭ ‬العربي‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الفكر‭ ‬والعقيدة‮»‬،‭ ‬وإن‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬‮«‬في‭ ‬اندفاعاتها‭ ‬تتكشف‭ ‬عن‭ ‬صراع‭ ‬ثقافي‭ ‬وديني‭ ‬واسع‮»‬‭… ‬ولأن‭ ‬سلطان‭ ‬العرب‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬الإسلام‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬َسخّرت‭ ‬فكرها‭ ‬وأدواتها‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬بين‭ ‬المسلمين‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬العرب،‭ ‬الذين‭ ‬يصفهم‭ ‬المؤرخ‭ ‬بـ«الجماعات‭ ‬الخاضعة‭ ‬لسلطان‭ ‬العرب‮»‬،‭ ‬للاندفاع‭ ‬إلى‭ ‬مهاجمة‭ ‬الإسلام‭ ‬للنيل‭ ‬من‭ ‬العرب‭.‬

وبدراسة‭ ‬السياق‭ ‬التاريخي‭ ‬للحركة‭ ‬الشعوبية‭ ‬يمكننا‭ ‬تأكيد‭ ‬أن‭ ‬حركات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬السرية‭ (‬الباطنية‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬تتظاهر‭ ‬بالإسلام،‭ ‬هي‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬هدم‭ ‬السلطان‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي‭ ‬من‭ ‬الداخل،‭ ‬وأن‭ ‬الجهود‭ ‬التي‭ ‬بذلت‭ ‬لمسخ‭ ‬وتشويه‭ ‬الحاضر‭ ‬والتاريخ‭ ‬العربي،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬بثه‭ ‬من‭ ‬تضليل‭ ‬وتزييف‭ ‬في‭ ‬السِّيَر‭ ‬والروايات‭ ‬الدينية،‭ ‬وفي‭ ‬النصوص‭ ‬المقدسة،‭ ‬هي‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬سياق‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬القديمة‭-‬الجديدة‭.‬

وعلى‭ ‬مدار‭ ‬قرون،‭ ‬تم‭ ‬استخدام‭ ‬سبل‭ ‬سياسية‭ ‬واجتماعية‭ ‬وعقائدية‭ ‬وفكرية‭ ‬وتربوية‭ ‬متنوعة‭ ‬وعديدة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬الخطير،‭ ‬من‭ ‬ضمنها‭ -‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭- ‬رواة‭ ‬الأدب‭ ‬وواضعو‭ ‬الشعر،‭ ‬لما‭ ‬للأدب‭ ‬والشعر‭ ‬من‭ ‬تأثير‭ ‬كبير‭ ‬يضاهي‭ ‬تأثير‭ ‬السلاح‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الدعاية‭ ‬والتوجيه؛‭ ‬كما‭ ‬يتم‭ ‬اليوم‭ ‬تسخير‭ ‬الإعلام‭ ‬والدراما‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬روائي‭ ‬جديد‭ ‬لقصص‭ ‬القرآن‭ ‬والأحاديث،‭ ‬بما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬الانتقاص‭ ‬من‭ ‬الإسلام‭ ‬والعرب‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ورفع‭ ‬شأن‭ ‬مَن‭ ‬يدّعون‭ ‬الإسلام‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

ولم‭ ‬يقتصر‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬الأدب‭ ‬والشعر،‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬تفاصيل‭ ‬أكثر‭ ‬خطراً‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬التمترس‭ ‬العقائدي‭ ‬المذهبي‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬الحياتي‭ ‬المحاط‭ ‬بحماية‭ ‬الانغلاق‭ ‬الطائفي‭ (‬الباطني‭) ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬والحراك‭ ‬السياسي‭ ‬القومي‭-‬المذهبي‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬وأخطر‭ ‬تلك‭ ‬التفاصيل‭ ‬هي‭ ‬منهجية‭ ‬تربية‭ ‬الناشئة‭ ‬والعقول‭ ‬الصغيرة‭ ‬وإخضاعها‭ ‬للفكر‭ ‬الباطني‭ ‬المتطرف‭ ‬مع‭ ‬جرعات‭ ‬من‭ ‬الترهيب‭ ‬والترغيب،‭ ‬وجرعات‭ ‬من‭ ‬القوة‭ ‬الكامنة‭ ‬المعدة‭ ‬للانفجار،‭ ‬والفوقية‭ ‬المذهبية‭ ‬والعقائدية‭ ‬والدينية،‭ ‬والإيمان‭ ‬بالمقدس‭ ‬المؤدلج‭ ‬ورفعته‭ ‬فوق‭ ‬الإسلام،‭ ‬انتهاءً‭ ‬ببث‭ ‬نفحات‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬وأهمية‭ ‬وأساليب‭ ‬الثأر‭ ‬والانتقام‭ ‬من‭ ‬الآخر‭ ‬المختلف‭ ‬عقائدياً‭.‬

إنها‭ ‬التربية‭ ‬الأكثر‭ ‬خطراً‭ ‬على‭ ‬بنية‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي،‭ ‬والتطرف‭ ‬الأكثر‭ ‬دموية‭ ‬وتدميراً‭ ‬للهوية‭ ‬العربية‭ ‬والعقيدة‭ ‬الاسلامية‭. ‬

 

المحصلة

أولاً‭:‬ عقائدياً‭ ‬لا‭ ‬اختلاف‭ ‬بين‭ ‬الفرق‭ ‬الدينية‭ ‬السياسية‭ ‬الباطنية‭ ‬المتطرفة‭ ‬في‭ ‬القرنين‭ ‬الأخيرين‭ (‬العشرين‭ ‬والواحد‭ ‬والعشرين‭) ‬وتلك‭ ‬الحركات‭ ‬الشعوبية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬الميلادي،‭ ‬إنما‭ ‬تطورت‭ ‬أدواتها‭ ‬واستراتيجياتها‭ ‬الحديثة‭ ‬المستخدمة‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬عقائدها‭ ‬‮«‬المطورة‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬استقطاب‭ ‬التعاطف‭ ‬والولاء‭ ‬والتبعية،‭ ‬وفي‭ ‬دعوات‭ ‬الخروج‭ ‬على‭ ‬الإسلام‭ ‬والعروبة؛‭ ‬فتمكنت‭ ‬الفرق‭ ‬الباطنية‭ ‬الجديدة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تغلف‭ ‬رموزها‭ ‬وعقائدها‭ ‬بدروع‭ ‬القدسية‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬الترهيب،‭ ‬كما‭ ‬صنعت‭ ‬لها‭ ‬دولة،‭ ‬ودولاً‭ ‬داخل‭ ‬دول،‭ ‬وأحزابا‭ ‬وفرق‭ ‬عنف‭ ‬ومليشيات‭ ‬خطيرة،‭ ‬يصعب‭ ‬ردعها‭ ‬دماغياً‭.‬

ثانياً‭:‬ اتبعت‭ ‬الفرق‭ ‬الباطنية‭ ‬الحديثة‭ ‬أسلوب‭ ‬الدعوة،‭ ‬وأجادت‭ ‬تعليم‭ ‬وتعلّم‭ ‬علوم‭ ‬الكلام،‭ ‬فتفوقت‭ ‬في‭ ‬تسخير‭ ‬عناصر‭ ‬وأدوات‭ ‬ووسائل‭ ‬الحروب‭ ‬الناعمة‭ ‬لكسب‭ ‬العقول‭ ‬والقلوب‭ ‬بأساليب‭ ‬قديمة‭-‬مستحدثة،‭ ‬تتغزل‭ ‬بشعارات‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والعدالة‭ ‬والتسامح‭ ‬والمساواة‭ ‬بين‭ ‬الشعوب،‭ ‬لتنتهي‭ ‬بالتدخل‭ ‬المباشر‭ ‬والخطير‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬العربية،‭ ‬والتحريض‭ ‬على‭ ‬الثورات‭ ‬وزعزعة‭ ‬النظام‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬جذوره،‭ ‬متخذة‭ ‬من‭ ‬تقديس‭ ‬الشخصيات‭ ‬والطقوس‭ ‬والقصص‭ ‬والأساطير‭ ‬التاريخية‭ ‬سبيلاً‭ ‬لنشر‭ ‬فكرها‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬شرعية‭ ‬كل‭ ‬السلطات‭ ‬العربية‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬الخلافة‭ ‬الإسلامية‭ ‬الأولى‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬مدعوماً‭ ‬بآلاف‭ ‬المؤلفات‭ ‬والكتب‭ ‬حول‭ ‬غيبيات‭ ‬ومعجزات‭ ‬قادمة‭ ‬بمسميات‭ ‬وعناوين‭ ‬مختلفة،‭ ‬تستهدف‭ ‬جميعها‭ ‬ابتزاز‭ ‬العقول‭ ‬وتسخير‭ ‬تبعيتها‭ ‬وطاعاتها‭ ‬لتلك‭ ‬العقائد‭ ‬والأوامر‭ ‬والشفرات‭ ‬الباطنية‭ ‬العليا‭.‬

ثالثاً‭:‬ إن‭ ‬تاريخ‭ ‬وسياق‭ ‬ظهور‭ ‬تيارات،‭ ‬وفرق،‭ ‬وجماعات،‭ ‬وطوائف‭ ‬الغلو‭ ‬الدينية‭ ‬الباطنية،‭ ‬التي‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬فرقة‭ ‬المسلمين‭ ‬بالمواقف‭ ‬المتشدّدة‭ ‬والأفكار‭ ‬المتطرفة،‭ ‬مُحْدِثةً‭ ‬الانقسامات‭ ‬والتقاتل‭ ‬الداخلي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬كانت‭ ‬سبباً‭ ‬في‭ ‬ضعف‭ ‬ووهن‭ ‬الحكم‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي‭ ‬منذ‭ ‬عصور‭ ‬خلت‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬ينسب‭ ‬إلى‭ ‬تاريخ‭ ‬تلك‭ ‬الحركات‭ ‬الشعوبية‭ ‬القديمة،‭ ‬والمبادئ‭ ‬التي‭ ‬تنادي‭ ‬بها،‭ ‬باطنياً‭ (‬حركات‭ ‬الحشاشين‭ ‬والبابيين‭ ‬والبابكيين‭ ‬والصفويين‭ ‬وفدائيي‭ ‬إسلام‭ ‬وغيرها‭ ‬قديماً‭… ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬الأحزاب‭ ‬المليشياوية‭ ‬وأحزاب‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬حديثاً‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السلوك‭ ‬الباطني‭ ‬مزايا‭ ‬تمدها‭ ‬بالقوة،‭ ‬كما‭ ‬تحقق‭ ‬لها‭ ‬النجاحات‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬تاريخها‭ ‬الطويل،‭ ‬ما‭ ‬يمدها‭ ‬بالصبر‭ ‬والحماس‭ ‬للاستمرار‭ ‬والتوريث‭ ‬مع‭ ‬تعاقب‭ ‬الأجيال‭.‬

رابعاً‭:‬ إن‭ ‬فتح‭ ‬باب‭ ‬المعرفة‭ ‬بالحركات‭ ‬والفرق‭ ‬الدينية‭ ‬الباطنية‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬إرادة‭ ‬سياسية‭ ‬عليا،‭ ‬لدعم‭ ‬وتكريس‭ ‬وتأمين‭ ‬جهود‭ ‬دراسية‭ ‬وبحثية‭ ‬واسعة‭ ‬ومستدامة،‭ ‬تقودها‭ ‬عقول‭ ‬عربية‭ ‬علمية‭ ‬متخصصة‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وبالأخص‭ ‬في‭ ‬السوسيولوجيا‭ ‬والأنثروبولوجيا،‭ ‬وأخرى‭ ‬كعلوم‭ ‬الفلسفة‭ ‬والتأويل،‭ ‬وعلم‭ ‬النفس‭ ‬والتاريخ‭ ‬والآثار،‭ ‬ودراسات‭ ‬الاستشراق‭ ‬والاستعمار‭ ‬والاستشراف،‭ ‬بهدف‭ ‬تأسيس‭ ‬قواعد‭ ‬البيانات‭ ‬والمعلومات‭ ‬والمعارف‭ ‬التي‭ ‬يحتاج‭ ‬إليها‭ ‬العرب‭ ‬لضمان‭ ‬أمنهم،‭ ‬ومواجهة‭ ‬مختلف‭ ‬أنواع‭ ‬المد‭ ‬العقائدي‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬بناء‭ ‬مستقبل‭ ‬عربي‭ ‬أكثر‭ ‬استقراراً،‭ ‬وتوفير‭ ‬العيش‭ ‬الكريم‭ ‬لأجيالنا‭ ‬القادمة‭.‬

وبناءً‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬علينا‭ ‬التوجه‭ ‬بحكمة‭ ‬وجرأة‭ ‬نحو‭ ‬بناء‭ ‬منظومتنا‭ ‬المعرفية‭ ‬التاريخية‭ ‬حول‭ ‬اصول‭ ‬وجذور‭ ‬عموم‭ ‬التطرف‭ ‬الديني،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تجزئة‭ ‬أو‭ ‬إقصاء‭ ‬لأي‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬أبعاده‭ ‬القريبة‭ ‬والبعيدة،‭ ‬لنتمكن‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬أسس‭ ‬وقواعد‭ ‬مواجهته‭ ‬والتصدي‭ ‬له‭ ‬بخطط‭ ‬استراتيجية‭ ‬قصيرة‭ ‬وطويلة‭ ‬المدى‭. ‬

sr@sameerarajab‭.‬net

نقلا عن أخبار الخليج

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى