عرفت العلاقات الإيرانية الخليجية حالات من المد والجزر منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وربما كان الفشل الدبلوماسي في الوصول إلى صيغة متوازنة في منظومة الأمن والاستقرار في منطقة الخليج والشرق الأوسط هو أحد مظاهر عمق الأزمة بين إيران وعموم دول الخليج، وخصوصًا المملكة العربية السعودية، ثم إن هذا الفشل الدبلوماسي بوصفه تعبيرًا عن السياسة الخارجية وأزماتها، هو أيضًا معبّر حقيقي عن جوهر الأزمات الاستراتيجية بين الطرفين.
وقد شهد المساجلة السياسية بين إيران والخليج في سنوات الربيع العربي _وما تزال_ حالًا من التصاعد، تعكس جوهر التوتر في الأفعال وردات الأفعال. وقد أدى الإعلام دورًا مهمًا ورئيسًا في هذه المساجلة السياسية، ويمكن التعامل مع المشهد الإعلامي بوصفه ساحة أخرى من ساحات الاستقطاب والتوتر والعنف الرمزي.
إن موقع الخليج من السياسات الاستراتيجية الإيرانية هو موقع يتصل مباشرة بالأمن القومي، ومن ثم فإن الاستراتيجيات الإعلامية الإيرانية، وما يرتبط بها من مؤسسات، تنطلق من تلك الرؤية بعيدة المدى في صناعة الأهداف، وبلورة الآليات، ما يجعل مروحة القضايا الخليجية في الإعلام الإيراني تتسع يومًا بعد يوم، لتطال ما هو أبعد من السياسي، ونقصد هنا حقل القيم المؤسسة للسياسة والاجتماع والقانون، في تنويع يتجاوز الدعاية التحريضية المباشرة ضد الآخر، وهو ما يعكس البنية المعقدة للإعلام الإيراني، ومستوى تقدمه، وارتباطه بصانع القرار الاستراتيجي.
وبالتزامن مع القفزات المهمة التي عرفها الإعلام في العالم، وتصاعد دوره في تشكيل الرأي العام خارج الحدود الجغرافية، سَعت إيران إلى الاستفادة من الممكنات التي يقدمها الفضاء الإعلامي، وحسّنت شبكاتها الإعلامية، في إطار ازدياد الحاجة إلى أدوات تنتمي إلى حقل القوة الناعمة، خصوصًا أن القوة الصلبة تبقى محدودة الفعالية، بل إنها يمكن أن تعطي نتائج معاكسة للمأمول، خصوصًا عندما توجد كثير من العناصر في حقل الاشتباك، وهو ما ينطبق على حقل الاشتباك الإيراني- الخليجي، إذ توجد عناصر دينية ومذهبية وتاريخية معقدة.
وإذا كان من الصحيح والجائز القول إن الربيع العربي نقطة فارقة في تاريخ منظومة الأمن والاستقرار في المنطقة لجملة من الأسباب المتصلة بالراهن والمستقبل، فإن دراسة وتحليل مرتكزات الإعلام الإيراني وكيفية تعاطيه مع الخليج وقضاياه الكثيرة، من شأنه أن يكشف لنا طبيعة العقل الاستراتيجي الإيراني في رؤيته لمستقبل العلاقات الإيرانية الخليجية، والسيناريوهات المحتملة في تلك العلاقة.
إن سياق التناول الإعلامي الإيراني لمشكلات دول مجلس التعاون يكشف تباينًا في طريقة التعاطي مع كل دولةٍ على حدة، إذ إن الإعلام الإيراني، وفقًا لارتباطه بالسياسة العامة للدولة الإيرانية، لا ينظر إلى دول مجلس التعاون الخليجي بوصفها كتلة واحدة، بل إن كل دولة من دول المجلس تمتلك خصوصيتها في السياسة والإعلام الإيرانيين، فالقضية الواحدة لا تمتلك الأهمية نفسها في الإعلام الإيراني، وهو ما تفسره التوجهات الاستراتيجية السياسية لصانع القرار الإيراني.
ويبقى للمملكة العربية السعودية المنزلة الأكثر بروزًا في الإعلام الإيراني، إذ تبقى قضايا المملكة السياسية والاجتماعية والاقتصادية حاضرات دائمًا في وسائل الإعلام الإيراني المختلفة، نظرًا إلى طبيعة الصراع الاستراتيجي بين إيران والمملكة، وهو الأمر الذي سنتناوله في تحليل خاص في بحثنا، فالمملكة هي الدولة الكبرى والأٌقوى بين دول الخليج العربي، وتشكل سياساتها مجال الاستقطاب الحيوي لدول الخليج الأخرى، وتدهور الأمن القومي العربي والإقليمي بعد الربيع العربي أعطى المملكة موقعًا خاصًا في صراعات الشرق الأوسط.
أولًا: الإطار المنهجي للدراسة
١- أهمية الدراسة
يعد الإعلام أحد الأدوات الرئيسة في العلاقات الخارجية للدول، وهو -من وجهة نظر العلوم السياسية- أحد الفاعلين في صناعة الرأي العام الدولي، إذ يستند إليه صانعو القرار في تصدير ما يريدونه من رؤى في القضايا المطروحة، ويندرج من هذه الزاوية في الأدوات الاستراتيجية، ويرتبط ارتباطًا عميقًا بتوجهات مركزية بعيدة المدى.
وقد شهد الإعلام، منذ بداية الثمانينيات من القرن العشرين حتى اليوم، قفزات مهمة في المستوى التقني، وتقدّم مع ثورتي التقانة والاتصالات في موجة العولمة المستندة إلى صناعات المعرفة، وقد استفادت الحكومات من ذلك التقدم المذهل، ووسّعت كثيرًا منها شبكاتها الإعلامية، لتحقيق غاياتها السياسية الاستراتيجية التي لا تشتمل على المستوى السياسي فحسب، وإنما تطال البنى السوسيولوجية للجماعات.
وتعد إيران واحدة من الدول شرق الأوسطية التي حدّثت بناها الإعلامية، ووسعت شبكاتها، في إطار صراعاتها المختلفة، سواءً في محيطها الإقليمي، أم في العالم، ولطالما كانت دول الخليج العربي هدفًا استراتيجيًا للسياسات الإيرانية بعد الثورة الإسلامية في عام 1979، وهو ما جعلها أحد الموضوعات الرئيسة في أجندة الإعلام الإيراني، وستحاول هذه الدراسة أن تكشف عن المرتكزات الرئيسة للخطاب الإعلامي الإيراني تجاه دول الخليج العربي، وخصوصًا المملكة العربية السعودية.
٢- مفهومات مؤسسة للبحث
االإعلام
يستند هذا البحث إلى مفهوم الإعلام بوصفه خطابًا، في محاولة لتحييد التعريفات التقليدية التي تتعاطى معه بوصفه محض عملية إبلاغ، أو تحاول ربطه بالوسائل التقنية المستخدمة.
وسيمدنا التعامل في بحثنا مع الإعلام بوصفه خطابًا، بقدرة على ضبط إطار السلوك الإعلامي الإيراني في تناول قضايا الخليج العربي، حيث إن الخطاب _من منظور هذه الدراسة_ هو مجموعة من القواعد والسلوكيات التي يمكن رصدها في النمط المتكرر للرسائل الإعلامية.
السياسة الخارجية
إن البعد النظري لهذا المفهوم ينفتح على ممكنات هائلة من الأدوات، فتحقيق مجموعة الأهداف السياسية المرتبطة بالسياسة العامة للدولة لا يغدو حكرًا على الأشكال الدبلوماسية التقليدية، ما يجعل مفهوم الدعاية _بما هو مفهوم إعلامي أيضًا_ جزءًا من السياسة الخارجية.
إن الطابع الأيديولوجي لمفهوم الدعاية يمتلك فاعلية مهمة في تحقيق الأهداف السياسية، لارتباطه الوثيق بمنظومات عدة، من مثل الدين، والمذهب، والثقافة، والشرعية، وغيرها من المنظومات التي يتناولها الصراع بين الدول، في سبيل تحقيق المصالح القومية العليا.
القوة الناعمة
شاركت العولمة في إبراز مفهوم القوة الناعمة بوصفها جزءًا من حال الانخراط في صراع طويل بين الدول، وارتبط هذا المفهوم بالقيم والقيم المضادة ([1])، ويعكس استخدامه رؤية النظام السياسي لطبيعة الصراع الاستراتيجي، وقدرته على المزج بين القوة الصلبة وأدوات تنتمي إلى حقول قيمية، ومنها الإعلام بهدف خلق المقارنة بين النظم السياسية والاجتماعية والقانونية (ليبرالي/ شمولي، منفتح/ متزمت، نظام تداولي/ نظام وراثي، قوانين وضعية/ قوانين دينية… إلخ).
٣- منهج البحث
نعتمد في بحثنا المنهج الوصفي التحليلي بالدرجة الأولى، في تتبعه تاريخية المؤسسة الإيرانية، وأهمية دول الخليج وقضاياها في هذا الإعلام، متجنبين الخوض في بنية الإعلام الإيراني، بحيث يكون تركيزنا الرئيس هو الكشف عن كيفية تسخير الإعلام الإيراني تجاه الخليج في خدمة المصالح القومية العليا للجمهورية الإيرانية الإسلامية، وماهية السمات الرئيسة في الخطاب الإعلامي.
ثانيًا: الإعلام الإيراني من الثورة إلى المأسسة
أُطلق على الثورة الإسلامية في إيران اسم (ثورة الكاسيت)، فقد أدت شرائط التسجيل التي تضمنت خطب رجال الدين دورًا مهمًا في تحريض الشعب الإيراني ضد الشاه محمد رضا بهلوي، فقد كانت شرائط التسجيل في السنوات التي سبقت الثورة الأداة التي وفّرت للإسلاميين التواصل مع شريحة واسعة تنتمي بصورة رئيسة إلى الطبقة الوسطى، وخصوصًا طلاب الجامعات، في ظل عدم توافر بدائل أخرى واسعة الانتشار، وقد اكتشف الإسلاميون بتلك الأداة القوة الهائلة التي يمتلكها الإعلام في ترسيخ نفوذهم السياسي، وهو ما سيجعل لاحقًا من الإعلام في صوره كلها أداة رئيسة في فلسفة تصدير الثورة.
وقد حظيت المؤسسة الإعلامية الرسمية في الدستور الإيراني بمادة دستورية مستقلة (المادة 175)([2])، إذ رُبطت مؤسسة الإذاعة والتلفزيون ربطًا مباشرًا بالمرشد الأعلى، وقد جاء هذا الربط ليعكس بداية مخاوف النظام الثوري من استخدام الإعلام من القوى المضادة للثورة، لكن استمرار هذا الارتباط بين المؤسسة الإعلامية الرسمية وأعلى سلطة سياسية في البلاد جعل هذه المؤسسة، وتوسعاتها لاحقًا، المعبّر الرئيس عن التوجهات السياسية للدولة الإيرانية، وكشف عن أهمية هذه المؤسسة في بناء الرأي العام؛ الداخلي والخارجي، خصوصًا أن المؤسسة شهدت توسّعًا كبيرًا في بنيتها، وتوجهاتها، وعدد المؤسسات التابعة لها التي تولي أهمية كبرى لبلورة الخطاب الإيراني تجاه القضايا الاستراتيجية.
وتعدّ مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية من كبريات المؤسسات الإعلامية في منطقة الشرق الأوسط، إذ يعمل في هذه المؤسسة حوالى 50 ألف موظف([3])، بين ثابتين ومتعاقدين، وتضخُّ فيها موارد مالية كبيرة، ولئن كان من غير المعروف تمامًا ما هي الميزانية العامة لهذه المؤسسة، إلا أن بعض التقديرات في 2009 أشارت إلى أن ميزانيتها تبلغ حوالى 1580 مليار ترومان إيراني (سعر الصرف آنذاك مقابل الدولار الأميركي يعادل 950 ترومان)، ويأتي نصف الميزانية من موارد الدولة، بينما يأتي النصف الآخر من مؤسسات أخرى مرتبطة بها، أو من خلال بعض الرسوم المفروضة من الدولة على بعض الخدمات الإعلامية، أو من خلال عوائد حقوق البث([4]).
وعلى الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود ونصف العقد على نشوء مؤسسة الإذاعة والتلفزيون إلا أن عدد الذين تولوا قيادة هذه المؤسسة هم ستة أشخاص، وهم صادق قطب زادة من 1979 وحتى 1982، وقد أعدم بتهمة (التآمر ضد الثورة)، ومحمد هاشمي رفسنجاني، وهو شقيق (أكبر هاشمي رفسنجاني)([5])، من 1984 وحتى 1994، وعلي لاريجاني بين 1994 و2004، وقد أصبح لاحقًا رئيسًا للبرلمان الإيراني، وكبير المفاوضين في الملف النووي مع مجموعة الدول الخمس زائد واحد، وأتى بعده الجنرال في حرس الثورة عزت الله ضرغامي بين عامي 2004 و2014 ، ومن ثم تولى محمد سرافراز رئاسة المؤسسة، وهو ضابط في الحرس الثوري، وسبق أن جرح في الحرب العراقية الإيرانية، وقد أقيل من منصبه، ويرأس المؤسسة حاليًا عبد العلي علي العسكري.
إن الأهمية السياسية التي يمتلكها الإعلام في إيران تظهر في ارتباطه بأكثر مرجعين قياديين أهمية، وهما المرشد الأعلى والحرس الثوري، وبالطبع فإن هذه الهيمنة في الإعلام الرسمي لها مدلولات عدة، وفي مقدمتها أن هذين المرجعين يعدّان الإعلام واحدًا من أخطر المؤسسات في الساحتين الداخلية والخارجية، بل إنه أداة لا تقل أهمية عن المؤسسات الاقتصادية والأمنية والعسكرية، بالنسبة إلى نظام يقوم على شرعية الثورة في حكم الداخل، وعلى تصديرها في الخارج.
لكن الإعلام الإيراني لا يمكن اختصاره بمؤسسة الإذاعة والتلفزيون فحسب، على الرغم من حجم مواردها المالية والبشرية، فالساحة الإعلامية الداخلية شهدت توسعًا كبيرًا في عدد من المؤسسات الإعلامية، نظرًا إلى طبيعة القوى النافذة في السياسية الداخلية، وجملة التباينات في رؤيتها للدولة الإيرانية، فقد تجاور وتنافس في إيران عدد من القوى التي يتداخل في تكوينها الاقتصاد والدين، فهناك الإصلاحيين، وطبقة البازار، والتيار الليبرالي، وهي قوى فاعلة في الحراك السياسي الداخلي، ولها تعبيراتها المختلفة، ومنها الإعلام، لكن لا يمكن مقارنة تأثيرها في مجال السياسة الخارجية بنفوذ القوى المحافظة وتأثيرها.
يمكن القول إن وفاة الإمام الخميني في 1989، ونهاية الحرب الإيرانية العراقية، وسقوط الاتحاد السوفياتي، كلها عوامل أسست بداية تحول في إيران، وفي الإعلام الإيراني، إذ بدأت إيران فعليًا تشهد تحولًا من نظام الثورة إلى الدولة ونظامها السياسي، من ثمَّ يمكن عد مرحلة الرئيس هاشمي رفسنجاني _بين عامي 1989 و1997_ مرحلة إعادة هيكلة المؤسسات، لتتلاءم أكثر مع فكرة الدولة، في ظل مرحلة عالمية جديدة، تتسم بهيمنة القطب الأميركي في الساحة العالمية.
ونظرًا إلى خصوصية الوضع السياسي الإيراني الذي يتمتع بصراع نفوذ بين الجناحين المحافظ والإصلاحي، فإن حركة المشهد الإعلامي تتأثر على الدوام بهذا الصراع، عاكسة رجحان كفة تيار على آخر، أو مدى حدة الصراع نفسه، لكن في الوقت نفسه، يمكن ملاحظة ميل عام يعكس ترسيخ المكتسبات التي تنجز في مرحلة معينة، وتحديثها، وهو ما حدث فعليًا مع فوز الإصلاحيين في الانتخابات الرئاسية في 1997، ومجيء الرئيس محمد خاتمي إلى الحكم، إذ استفاد من منجزات الرئيس هاشمي رافسنجاني، وبنى عليها في تحسين قطاع الإعلام، وإفساح المجال أمام نشوء مؤسسات جديدة، وبالفعل فقد شهدت مدة حكم الرئيس خاتمي تدفقًا كبيرًا في عدد الصحف والمجلات المطبوعة بلغات فارسية وعربية وإنكليزية وكردية، وأصبح هناك حوالى 25 صحيفة يومية، وتضاعف عدد النسخ الموزعة من مليون ومائتي ألف نسخة إلى حوالى مليونين و730 ألف نسخة([6])، ويعكس هذا التقدّم في عدد الصحف منزلة الإصلاحيين، وميلهم إلى ترسيخ حريات إعلامية واسعة، والأهم من ذلك تسخير هذا الانفتاح الإعلامي في صراعهم مع القوى المحافظة.
ومن الضروري، في سياق توصيف تقدم الإعلام الإيراني، تسجيل الملاحظات الآتية:
- الارتباط الوثيق بين الثورة الإسلامية ونشوء الجمهورية والإعلام، وأهمية الدور التحريضي للإعلام من وجهة نظر القوى الإسلامية، والاعتماد على الأيديولوجيا في الخطاب الإعلامي.
- يرتبط الإعلام الإيراني الرسمي دستوريًا، بأعلى سلطة في الجمهورية الإسلامية، التي يمثلها المرشد الأعلى.
- تعدّ مؤسسة الإذاعة والتلفزيون مؤسسة خاضعة خضوعًا كبير لسيطرة الحرس الثوري الإيراني، وذلك عبر رئاسة هذه المؤسسة، وهم ضابطون في الحرس الثوري، وشخصيات تدور في فلك نفوذ الحرس الثوري.
- إن حجم الموارد المالية والبشرية الكبيرة التي وصلت إليها مؤسسة الإذاعة والتلفزيون يؤكد أن هذه المؤسسة تضطلع بدور مهم، داخليًا وخارجيًا، في ترسيخ التوجهات الاستراتيجية لصانع القرار الإيراني، وحجم القضايا والساحات التي يغطيها الإعلام التابع لهذه المؤسسة.
- توسّع الإعلام الإيراني، بشقيه الرسمي والخاص، مع تحولات إيران من الثورة إلى الدولة، بالتزامن مع متغيّر داخلي مهم، وهو وفاة آية الله الخميني، ومتغّير عالمي رئيس، هو سقوط الاتحاد السوفياتي.
- يعكس الإعلام الإيراني الداخلي مساحة نفوذ التيارين المحافظ والإصلاحي داخل المشهد السياسي، واختلاف الرؤى بين التيارين، وخصوصًا في ما يتعلق بالقضايا الداخلية.
- نظرًا إلى حسابات التعدد الإثني الداخلي (الفرس، الأذريون، العرب، الكرد، التركمان، الجيلاك، البلوش، وغيرهم)، ونظرًا إلى الخريطة الجيوسياسية (أذربيجان، باكستان، أفغانستان، تركيا، أرمينيا، العراق، الخليج العربي)، فقد تنوع الإعلام الإيراني في لغاته، عاكسًا خارطة التنوع الإثني/ اللغوي الداخلي، والقضايا التي تفرضها العلاقات مع الجوار الإقليمي، إضافة إلى متطلبات مخاطبة المجتمع الدولي.
إن العوامل المتعددة التي فرضت نفسها على الإعلام الإيراني شاركت في توسّعه الكمي والنوعي، وهو بذلك يعدّ من أوسع الشبكات الإقليمية في الشرق الأوسط، ولا يمكن مقارنة أي إعلام عربي به من حيث الكم، أو من حيث القضايا التي يتناولها، وهو بذلك لا يعكس أهمية الجمهورية الإسلامية الإيرانية في المنطقة فحسب، وإنما يعكس بالدرجة الأولى مستوى وعي النخبة السياسية في إيران بدور الإعلام في تحقيق الغايات الاستراتيجية، وفي مقدمتها الأمن القومي الإيراني.
ثالثًا: الإعلام والسياسة الخارجية في إيران
بسبب من اتساع جوارها الإقليمي، سَعت إيران إلى تطوير إعلامها الخارجي، في الخطاب والبنى، لتستطيع مواجهة التحديات المتغيرة في دول جوارها الإقليمي التي تختلف في ما بينها، من حيث نظم الحكم، ومستوى التقدّم، ودرجات التنمية، والقدرات العسكرية والأمنية، وطبيعة المشكلات الداخلية، وغيرها من القضايا الرئيسة في تقييم مستوى الاشتباك السياسي مع دولة ما من وجهة نظر السياسة الخارجية، وطبيعته، وما يستتبعه من خطط استراتيجية، أو تكتيكات مرحلية.
ويمكن القول إن الاشتباك السياسي الأكثر أهمية لإيران موجود بصورة دائمة مع ساحات رئيسة، وهي روسيا، وتركيا، وباكستان، وأفغانستان، والعراق، والخليج، ومن الطبيعي أن يتّسم استخدام أدوات الاشتباك السياسي الإيراني مع تلك الدول بالتباين، لكن يبقى الإعلام هو أداة ثابتة في ذلك الاشتباك متعدد الجبهات، فهو القناة التي توضح موقف القيادة الإيرانية من الأحداث الجارية في كل مفصل سياسي، لكن هذه القناة ليست قناة ناقلة للرسالة فحسب، لكنها أيضًا قناة مخاطبة للرأي العام الخارجي، ووسيلة لإحداث الاختراق في المفهومات، خصوصًا في الإعلام الخارجي الإيراني الذي تعدّدت مؤسساته ووسائله، ويعمل بصيغ أقل مركزية من المؤسسات الرسمية.
إن خريطة العمل الإعلامي العامل في خدمة السياسة الخارجية الإيرانية هي خريطة متنوعة، إذ يتكامل عمل مؤسسات عدة في هذا المجال، وذلك على الرغم من الأصول القانونية المختلفة بين المؤسسات، وتبعيتها لجهات تنتمي إلى حقول عمل متباينة من حيث الظاهر، لكنها في المحصلة تعمل لإنتاج القوة الناعمة، في مظاهرها البحثية والإعلامية والفنية والأدبية، التي تشترك في إنتاجها خبرات وكفاءات كثيرة، ولها مصادر تمويل مهمة وثابتة.
وفي صلب خريطة القوى المنتجة للإعلام وللقوة الناعمة الإيرانية تقع جملة من المؤسسات الرئيسة، أهمها:
وكالات الأنباء
لا تقتصر وكالات الأنباء الإيرانية على الأخبار السياسية، بل إنها تمتد لتشمل عددًا من الحقول، بمثل الاقتصاد، والثقافة، والتكنولوجيا، والفنون، وتؤدي هذه الوكالات أدوارًا إعلامية وثقافية وتواصلية مختلفة، وتعد صلة وصل بين الاتجاهات الرئيسة في سياسات صانع القرار والفئات المستهدفة في داخل إيران وخارجها، وبناء صور منتقاة عن الهوية الإيرانية في عمقها التاريخي والحضاري، وتشكّل بذلك إحدى أدوات القوة الناعمة الإيرانية، لكونها تشارك في جذب فئات غير إيرانية، والتأثير فيها، ومدّها بتصورات عن الحياة داخل إيران.
وتأتي وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية، المعروفة اختصارًا باسم (إيرنا) (IRNA)، في مقدمة وكالات الأنباء، لكونها وكالة الأنباء الرسمية في إيران، وهناك وكالة أنباء (فارس)، التي تعدّ نفسها وكالة مستقلة، وهي من الوكالات المهمة، لكونها تقدم أخبارها باللغات العربية والتركية والإنكليزية، أما وكالة مهر للأنباء التي أنشئت في عام 2003 في طهران، فهي من أهم الوكالات التي تعمل في خدمة السياسة الخارجية، حيث إنها تبث مادتها بسبع لغات، وهي الإنكليزية والفارسية والعربية والأوردية والألمانية والتركية والروسية، ولديها 14 خدمة تغطي القضايا السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والدينية المختلفة، وغيرها من القضايا، ويعمل فيها أكثر من 300 مراسل، إضافة إلى 5 مكاتب إقليمية، وعقدت اتفاقات تعاون مع 17 وكالة أجنبية، في آسيا وأوروبا معظمها.
إضافة إلى هذه الوكالات الكبيرة التي تقدم خدمات في قطاعات مختلفة، ثمة وكالات أنباء متخصصة، تركز على قضايا محددة، داخليًا أو خارجيًا، وكثراها أهمية وكالة (القدس) للأنباء، وهي وكالة متخصصة في الشؤون الفلسطينية، وهناك وكالة أنباء (الطلبة)، ووكالة أنباء (المرأة)، ووكالة (الأنباء القرآنية).
الإعلام المرئي والمسموع
تولي وحدة الإعلام الخارجي التابعة لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية أهمية خاصة للمحطات الإذاعية، وهي تخاطب الإيرانيين وغير الإيرانيين، وهناك حوالى 30 إذاعة تبث بلغات مختلفة، ومنها اللغة العربية، كما يوجد تركيز كبير على الجمهور الأوروبي، حيث تبث بمعظم اللغات الأوروبية، من مثل الإنكليزية، والفرنسية، والإيطالية، والإسبانية، والروسية، والألمانية والتركية، إضافة إلى لغات آسيوية مختلفة.
كما تنتهج مؤسسة الإذاعة والتلفزيون نهجًا مماثلًا في البث التلفزيوني، إذ تمتلك قنوات تبث بلغات عدة، وتستهدف بعضها الإيرانيين في أوروبا وأميركا، إضافة إلى جمهور غير إيراني، وتبث باللغات الفارسية، والعربية، والإنكليزية، والفرنسية، والتركية، والأذرية.
وتدعم إيران بعض القنوات في منطقة الشرق الأوسط، وتبث باللغة العربية، ومنها قناة (الميادين)، و(الأقصى)، و(النبأ)، وبعض القنوات في العراق، وذلك بالتعاون مع حركات وقوى إسلامية، بمثل حماس، وحزب الله، وفصائل شيعية عراقية، وتستقطب عددًا من النخب السياسية والثقافية والفنية العربية، ومهمتها الرئيسة الدفاع عن المشروع التوسعي الإيراني في المنطقة العربية.
مراكز الأبحاث
بدأ الاهتمام الفعلي بإنشاء مراكز الأبحاث في عهد الرئيس محمد هاشمي رفسنجاني([7])، وهي المرحلة التي أشرنا إليها سابقًا بأنها مرحلة التحول الفعلي في إيران من الثورة إلى الدولة، وقد استمر هذا الاهتمام حتى اليوم، وازداد الاهتمام بإنشاء المراكز البحثية المتخصصة، أو بدعم الجامعات للقيام بأبحاث تدعم توجهات السياسة الخارجية، وقد شاركت تلك المراكز في دعم صانع القرار في لحظات مهمة، لتجاوز التحديات الكثيرة التي واجهتها إيران، خصوصًا بعد الاحتلال الأميركي للعراق في 2003 أو في الملف النووي أو في مواجهة الربيع العربي، وما تفرّع منه من تحديات ما زالت مستمرة.
واللافت أن كل مركز من مراكز صنع القرار في إيران يمتلك مركزًا للأبحاث، وتعمل تلك المراكز على دعم صناع القرار في اتخاذ قراراتهم، إضافة إلى رسم الخطط لترويج تلك القرارات، وبناء شبكات من العلاقات، والدفاع عن السياسات، ثم إن لكل مركز بحثي مجموعة من الأهداف الثابتة التي يعمل لأجلها، خصوصًا في سياق الاحتياجات الاستراتيجية للأمن القومي.
ومن أكثر تلك المراكز أهمية: مركز دراسات رئاسة الجمهورية، وتشرف عليه رئاسة الجمهورية مباشرة، ويستفيد من الأبحاث المحلية والأجنبية المتعلقة بالشأن الإيراني الداخلي والخارجي، ويستضيف خبراء سياسيين ودبلوماسيين وأكاديميين، ويعدّ أحد المراكز الرئيسة في تحديد وتفسير القرارات السياسية، والترويج لها.
وثمة مركز دراسات البرلمان، ويهتم بالقضايا الدستورية والقانونية التي تساعد المشرّع الإيراني في سنّ القوانين، وتقديم دراسات حول قضايا الاقتصاد والتنمية، واقتراح قوانين بناءً على مصالح سياسية خارجية، خصوصًا في ما يتعلق بالتعامل القانوني مع غير الإيرانيين.
أما معهد دراسات وزارة الخارجية فيحظى بمنزلة مهمة في صنع القرار، وتوجد فيه تسع وحدات بحثية، وتعد كل وحدة منها مركزًا بحثيًّا، ويعمل فيها خبراء سياسيون، وسفراء سابقون، وأكاديميون متخصصون في العلاقات الدولية، وضابطون عسكريون متقاعدون، ويتعاون المركز مع باحثين في عدد من الدول من خارج إيران، ويوجد تركيز كبير على قضايا الشرق الأوسط.
الإعلام الإلكتروني
تمتلك المحطات الإذاعية والتلفزيونية الإيرانية مواقع إلكترونية تابعة لها، وتعدّ رديفًا مهمًا، والأمر نفسه ينطبق على الصحف أو المؤسسات البحثية، لكن يوجد كثير من المواقع الإعلامية الإلكترونية المدعومة بطريقة غير مباشرة من مؤسسات إيران، ومنها مواقع موجهة لمنطقة الشرق الأوسط، ولئن كان من الصعب إيجاد الصلة المباشرة بين تلك المواقع والمؤسسات الرسمية الإيرانية، من حرس ثوري، أو أجهزة استخبارات، فإن الخطاب الذي تتبناه تلك المواقع وحده كفيل بتأكيد تلك الصلة.
رابعًا: دول الخليج في الإعلام الإيراني (الأهمية والخطاب)
يشكّل الخليج العربي أحد القضايا الرئيسة في منظومة الأمن القومي الإيراني، بل يمكن القول إنه قضية وجودية بالنسبة إلى أمن إيران، وهو ما منحه منزلة مهمة في الخطاب الإعلامي الإيراني، نظرًا إلى تشابك جملة من القضايا بين إيران ودول الخليج، ومنها أمن الطاقة، والوجود الأميركي في الخليج، وطبيعة النظم السياسية، والمال الريعي الوافر في دول الخليج، والنزاع على الجزر الثلاث في الإمارات، ووجود أقليات شيعية في دول الخليج معظمها، والأمن القومي العربي، خصوصًا في المشرق العربي الذي شهد -وما يزال- فصولًا من التنافس والصراع السعودي الإيراني، وما ينجم عنه من تدخلات الطرفين كليهما في دول المشرق، إضافة إلى العلاقات الدولية التي تستثمر في الصراعات الإيرانية الخليجية.
ولئن كانت الحرب العراقية الإيرانية أحد فصول الصراع الإيراني الخليجي بصورة عامة، والإيراني السعودي بصورة خاصة، فإن ذلك الفصل تلاه فصلان أساسان، ومتداخلان؛ وهما الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003، وانتفاضات الربيع العربي التي بدأت في نهاية 2010، وما زالت آثار هذين الفصلين وتداعياتهما مستمرة في تغذية الصراع الإيراني السعودي بالدرجة الأولى، صراع يفرض نفسه في الأنظمة السياسية المختلفة في دول الخليج الأخرى.
لقد أظهرت مآلات الربيع العربي هشاشة منظومتي الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وبدا أنه من الطبيعي مع تلك المآلات أن تسعى الدول الإقليمية المهمة إلى توسيع نفوذها، انطلاقًا من رؤية جديدة للأمن الإقليمي، حيث فرضت تداعيات انهيار سلطة الدولة الوطنية في العراق وسورية تدخلًا واسعًا للدول الإقليمية (تركيا، إيران، السعودية)، وقد استتبع ذلك التدخل اصطفافات سياسية أكثر حدّة لدول المنطقة، برزت معها مخاوف الدول من تأثيرات الربيع العربي في أمنها الداخلي، والحاجة إلى بناء تحالفات لمواجهة تلك المخاوف.
وفي خضم هذه اللوحة المعقدة، بقضاياها المتشابكة، كان على الإعلام الإيراني أن يخوض معركته في أكثر من جبهة، ملتزمًا بالتوجهات الاستراتيجية للقيادة الإيرانية، آخذًا بالحسبان جملة التمايزات الموجودة في تلك الاستراتيجية تجاه دول الخليج، وهو ما سيسعى الإعلام الإيراني إلى تكريسه في تناوله قضايا الخليج، بالتوفيق بين الثوابت الاستراتيجية في السياسة الإيرانية والتكتيكات المطلوبة، مستفيدًا من تعدد الشبكة الكبيرة لمؤسساته الإعلامية الحكومية، أو تلك التي تدور في فلكه، وتخدم أهدافه، وتستطيع أن تؤدي أدوارًا أكثر مرونة من الإعلام الحكومي.
وعلى الرغم من التشابهات الكثيرة في العقد الاجتماعي لدول مجلس التعاون الخليجي (السعودية، الإمارات، قطر، سلطنة عمان، الكويت، البحرين)، وفي نظم حكمها السياسية، إلا أن الخطاب الإعلامي الإيراني يمتاز بازدواجية المعايير في تعامله مع شرعية النظم السياسية، إذ يمضي الخطاب الإعلامي مشككًا بطريقة مباشرة وصريحة في نظام حكم البحرين، بينما يدعم الخطاب نفسه شرعية الحكم في سلطنة عمان، ويمكن القول إن العلاقات بين سلطنة عمان والبحرين مع المملكة العربية السعودية هي عامل رئيس في تشكيل هذا الخطاب المزدوج، فبينما يعد نظام الحكم في البحرين مواليًا نظام الحكم في السعودية، نظرًا إلى جملة من العوامل البنيوية لمملكة البحرين التي تجعلها بحاجة إلى دعم الشقيقة الكبرى (السعودية)؛ تأخذ سلطنة عمان مسافة كافية من الاستقلالية عن السعودية، ولها علاقات مميزة مع إيران، وقد استضافت جولات رئيسة ومهمة من التفاوض بين إيران وأميركا والغرب في إطار الملف النووي الإيراني.
ما يهمنا هنا هو التأكيد أن الخطاب الإعلامي الإيراني لا يتعامل مع دول مجلس التعاون وقضاياه بالدرجة نفسها، وهو محكوم بجدلية العلاقة بين الثوابت الاستراتيجية والمتغّيرات المرحلية([8])، وتحكمه مسألة رئيسة، وهي مدى قرب دول مجلس التعاون من المملكة العربية السعودية وتماهيها معها، أو بعدها عن السعودية ودرجة استقلالها عن سياساتها، ويبدو هذا الأمر طبيعيًا من وجهة نظر الاستراتيجية الإيرانية التي ترى أن المملكة العربية السعودية هي المنافس الأكثر أهمية في منطقة الخليج، من ثمَّ فإنه من المنطقي أن يشتغل الإعلام الإيراني على التناقضات الموجودة بين دول مجلس التعاون.
وتوجد عوامل أخرى مهمة، غير مسألة القرب أو البعد بين سياسات دول مجلس التعاون وبين السعودية، يأخذها الخطاب الإعلامي الإيراني بالحسبان في تعامله مع دول الخليج، ومنها خصوصيات الجغرافيا والاقتصاد ونظام الحكم والعلاقات مع الغرب، فهو -على سبيل المثال- يعطي عامل الجغرافيا في الكويت أهمية خاصة، نظرًا إلى المشكلات التاريخية بين العراق والكويت، إضافة إلى وجود نسبة مؤثرة من أتباع المذهب الشيعي بين المواطنين الكويتيين، ويفصل في خطابه الإعلامي تجاه الإمارات بين موقف إيران الرسمي من الجزر الثلاث المحتلة من قبل إيران (طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى)، وطبيعة الاقتصاد الإماراتي الذي يقوم في جزء كبير منه على إعادة التصدير، والذي استفادت منه إيران في اثناء فترة العقوبات التي فرضت عليها من قبل الغرب.
إن التعاطي السياسي الإيراني مع كمٍّ كبير من القضايا المتصلة بالخليج فرض حالًا من البراغماتية في الإعلام الإيراني، وأوجد مستويات إعلامية عدة، متصلة ومنفصلة في آن واحد، بحيث لا ينعكس الموقف السياسي الإيراني تجاه دولة ما من دول الخليج بصورة آلية ومباشرة في الموقف من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يمكن ملاحظته أكثر في الإعلام الممول إيرانيًا، أكثر مما نجده في الإعلام الرسمي الإيراني.
ويأخذ الإعلام الإيراني بالحسبان الوزن السياسي النوعي لكل دولة من دول الخليج في المساحة الإعلامية التي يفردها لكل دولة من دول مجلس التعاون، وفي تمظهرات الخطاب الإعلامي نفسه، إذ يوجد كثير من الحذر في التطرق لبعض القضايا، وخصوصًا القضايا الاجتماعية في السعودية، من دون أن يمنع ذلك الحذر من تناولها، أو إغفالها، لكنه يجعل بنية التناول الإعلامي لتلك القضايا أكثر تعقيدًا وتركيبًا، وهو الأمر الذي يبرز الارتباط العميق بين التوجهات السياسية الخارجية الإيرانية والخطاب الإعلامي الإيراني تجاه دول الخليج، حيث تفرض تلك التوجهات هامشًا واسعًا من المناورة، لأسباب تتصل بالصراع طويل المدى بين إيران ودول الخليج، مع الأخذ بالحسبان إمكان التصعيد والتهدئة إعلاميًا، تبعًا لكل مرحلة من مراحل الصراع.
ومن المفيد هنا أن نسجل بعض الملاحظات في الاستراتيجية الإعلامية الإيرانية تجاه دول الخليج:
- الحرص على إخراج دول الخليج من خانة العدو المباشر، من دون إظهار موقف واحد من النظم السياسية.
- الخطاب الإعلامي السياسي تجاه مملكة البحرين هو الوحيد الذي يمتلك درجة من الثبات بعد الربيع العربي.
- تنعكس درجة قرب دول مجلس التعاون أو بعدها عن السياسات السعودية في درجة الحدّة التي يتناول فيها الخطاب الإعلامي الإيراني قضايا تلك الدول.
- يمتلك الخطاب الإعلامي الإيراني مستوى من الفصل في الموقف من القضايا السياسية، وغيرها من القضايا الاقتصادية والاجتماعية المتعلقة بمجتمعات الخليج العربي.
- تناول قضايا الأقلية الشيعية في دول الخليج هو من ثوابت الخطاب الإعلامي الإيراني، خصوصًا بعد الربيع العربي، وتحديدًا الأقلية الشيعية في البحرين والسعودية.
كما إن مقاربة الأوضاع الاجتماعية والثقافية، وتجلياتها ومدلولاتها، هي جزء من وظيفة الإعلام الخارجي الإيراني، وذلك انطلاقًا من أهمية قيمة البعدين الاجتماعي والثقافي في المواجهات طويلة المدى على المستوى السياسي التي تتصل بأسلوب غير مباشر بوظيفة مهمة من وظائف الإعلام السياسي، والمقصود هنا وظيفة تنميط الآخر «stereotype([9])، وهي عملية رئيسة في استراتيجيات المواجهة السياسية، وقد استخدمت في مستويات واسعة في الاستراتيجيات الإعلامية الأميركية تجاه الاتحاد السوفياتي السابق، ودول المنظومة الاشتراكية، حيث تعمل على تحويل الآخر إلى نمط بمواصفات لا تتماشى مع روح العصر، وما يمثله من قيم، من مثل: الحرية، والديمقراطية، والتعددية السياسية، والحريات العامة والخاصة، وغيرها من القيم.
خامسًا: تحليل الخطاب الإعلامي الإيراني تجاه السعودية
كشف الربيع العربي مستويات جديدة من التناقض الاستراتيجي بين إيران والسعودية، خصوصًا أن انتفاضات الربيع العربي تزامنت مع رؤية استراتيجية جديدة للولايات المتحدة الأميركية، تقوم على الانكفاء التدريجي عن المنطقة، وهي التي أدت في عقود طويلة دورًا مهمًا في ضبط صراعات الشرق الأوسط، ودعم حلفائها السعوديين، في تثبيت منظومة الأمن والاستقرار على ضفتي الخليج، إضافة إلى فرضها عقوبات طويلة المدى على إيران.
أدت مخاطر وفرص الربيع العربي إلى بروز حدّة الصراع الإيراني السعودي، خصوصًا بانكشاف بعض الدول الوطنية على حال من المواجهة المسلحة الداخلية، خصوصًا في ليبيا وسورية واليمن، ومواجهة سياسية في مصر بين الإخوان المسلمين والعسكريين، وقد احتاج هذا التنافس إلى خطاب إعلامي مواكب، لا في المستوى السياسي المباشر فحسب، بل في مستويات أخرى، راحت تكتسب أهمية أكبر من ذي قبل، بمثل القضايا الاجتماعية، والموقف من الإرهاب، والمرأة، وعلاقة النظام السياسي بمواطنيه، وغيرها من القضايا التي يمكن أن تخدم الصراع في بعده الاستراتيجي.
وسنحاول هنا أن نحلل عيّنات من الإعلام الإيراني، في محاولة لتفكيك هذا الخطاب، وإبراز خصائصه:
نشرت وكالة فارس للأنباء تحليلًا إخباريًا بعنوان (السعودية صفر اليدين وهذا سبب رفضها التفاوض مع إيران)([10])، ويأتي هذا التحليل ردًا على تصريحات الأمير محمد بن سلمان خلال لقاء أجرته معه صحيفة (فورين أفيرز) الأميركية، قال فيه «إن السعودية ستتضرر من التعاون مع إيران، في حال لم تغير إيران نهجها»، ولم يكتفِ التقرير بالرد على كلام الأمير محمد بن سلمان، بل جاء فيه «بات معظم الدول الغربية يدركون دور ومكانة السعودية كمنشأ للأصولية والراديكالية السلفية، ويعلمون بأن الرياض هي التي تدعم الجماعات الإرهابية في العراق وسورية، وباقي المناطق دعمًا ماديًا ومعنويًا ولوجستيًا، وهي التي تقف خلف نشر الفوضى وخلق الأزمات في المنطقة».
يحاول التقرير ابتداءً بعنوانه أن يقلل -عمومًا- من شأن المملكة العربية السعودية، وخصوصًا تصريحات الأمير محمد بن سلمان، وأن يَسم السياسات السعودية بالفشل، وأن يرسل رسالة مفادها أن السعودية لا تمتلك أي أوراق رابحة في ساحات الصراع مع إيران. وبعيدًا عن التحليل السياسي لهذه المعطيات التي يطرحها التحليل، إلا أنه يركز في خسارة أهم للسعودية، ويسوّق لها، وهي خسارة السعودية الرأي العام السياسي في الغرب، وذلك بربط النظام السعودي بـ (الأصولية)، و(الراديكالية السلفية)، بل اتهامه بدعم (جماعات إرهابية) في العراق وسورية، ومدّها بصور شتى من أنواع الدعم.
بالطبع لا يتضمن التقرير أي ذكر لدور إيران في العراق وسورية، أو أي دعم للفصائل المسلحة الشيعية في العراق، أو توظيف (حزب الله) في القتال إلى جانب النظام السوري، وانعكاس الدور الإيراني في التطرف والإرهاب في الساحتين العراقية والسورية، بل إن التقرير يذهب أبعد من ذلك في تأكيده ما يسمى معرفة (الغرب بدور الرياض في دعم الجماعات الإرهابية)، وهو ما يعني أن السياسة السعودية تعيش حال انكشافٍ تام أمام صانعي السياسات في الغرب.
يمكن ملاحظة عدد من المفردات، وما تمتلكه من دلالات في سياق التحليل، مثل (الإرهاب)، (الأصولية)، و(السلفية)، و(الراديكالية)، وربطها بالنظام السعودي، في خروج واضح عن مضمون التحليل، ويفترض أنه تحليل إخباري سياسي لتصريحات الأمير محمد بن سلمان عن التفاوض مع إيران.
ويتابع الإعلام الإيراني الخطوات المختلفة التي تتخذها السعودية في إطار (خطة المملكة 2030)، وتحاول التقليل من شأنها، وإبراز العقبات الداخلية التي تحول دونها، ويصل ذلك إلى حد السخرية من الخطوات نفسها، وهو ما يظهره عنوان الخبر الذي نقلته (قناة العالم) عن تصريحات الأمير محمد بن سلمان حول الإصلاح الاقتصادي، ووضعه استراتيجية من ثلاثة محاور، لتجنب أي ردة فعل عنيفة من (محافظين دينيين معارضين لخطته. (
يأتي الخبر بعنوان ساخر، وهو (شيزوفرينيا سعودية.. بن سلمان يضع استراتيجية لمواجهة رجال دين محافظين!) ([11])، والعنوان يشير بأسلوب متهم وصريح إلى وجود حال من الانفصام في السياسة السعودية، وإلى التعجب من تصريحات أحد أبرز رجالاتها حول مواجهة ردات فعل من قبل رجال دين محافظين على خطته الاقتصادية، بينما يدعم النظام السعودي نفسه رجال الدين، ويقوي نفوذهم.
ويضيف الخبر «وقدم الأمير محمد الخطة الإصلاحية المسماة (رؤية المملكة العربية السعودية 2030) بهدف الحد من اعتماد اقتصاد المملكة على النفط دون تعهد ملموس بإحداث تغيير في المجتمع السعودي المحافظ للغاية، لكن في بلد يلتزم بالمذهب الوهابي، حيث يمنع الاختلاط بين الرجال والنساء، وتحظر فيه إقامة الحفلات الموسيقية، أو دور السينما، تظل أهداف الخطة من تمكين المرأة ودعم الرياضة والاستثمار في وسائل الترفيه مثيرة للجدل».
في متن الخبر ثمة تبسيط كبير لطبيعة العلاقات السياسية الداخلية في السعودية، وعلاقة السياسة برجال الدين، وخلط غير منهجي بين الواقع الاقتصادي والواقع الاجتماعي، والأخذ في الحسبان بأن مشكلات الواقع الاجتماعي ستنعكس بوصفها عائقًا مباشرًا في وجه الخطط الإصلاحية، وبالطبع، فإنه إضافة إلى النيل من إمكانات مضي السعودية في خططها حول مستقبل السعودية، هناك محاولة مباشرة للنيل من المجتمع السعودي، وذلك بالإشارة إلى أوجه اجتماعية سلبية، غير ذات صلة مباشرة بموضوع الخبر نفسه.
وفي خبر لصحيفة (كيهان) (النسخة العربية)، يصف الإعلام الإيراني الجنود السعوديين بالمرتزقة، ويضمّن هذا الوصف في عنوان الخبر (القوات اليمنية المشتركة تقنص عددًا من العسكريين السعوديين في جيزان وتقتل العشرات من المرتزقة)([12])، ويقول الخبر «ارتكب الطيران السعودي مجازر متعددة خلال الساعات الماضية ضحاياها عشرات الشهداء والجرحى، فاستشهد ثمانية تلاميذ، وجرح 15 آخرون في ثلاث غارات شنتها الطائرات السعودية على مدرسة ابتدائية في مديرية نهم شمال غرب العاصمة صنعاء، فيما استشهد 15 شخصًا بينهم نساء بقصف قارب يقل مدنيين من جيبوتي إلى ساحل المخاء في تعز غربي اليمن».
ويضيف الخبر «ميدانيًا، لقي جنديان سعوديان مصرعهما قنصًا على يد قوات الجيش واللجان في أحد المواقع العسكرية السعودية في تبة الضبرة بجيزان، بعد ساعات من قنص جنديين في موقع الفريضة العسكري المجاور ليرتفع عدد الجنود الذين تم قُنصهم الى 4 جنود. وأفشلت القوات اليمنية المشتركة محاولة تسلل اخرى لمرتزقة العدوان السعودي الأميركي في وادي شواق بمديرية الغيل التابعة لمحافظة الجوف».
يعد هذا الخبر أنموذجًا من الأخبار التي ينقلها الإعلام الإيراني عن عمليات التحالف العربي في اليمن، حيث يركز بصورة رئيسة على الضحايا المدنيين، وخصوصًا النساء والأطفال، كما يعتمد وصفًا ثابتًا للجنود السعوديين، بوصفهم (مرتزقة)، إضافة إلى الربط بين السعودية وأميركا.
سادسًا: مرتكزات الخطاب الإعلامي الإيراني تجاه السعودية
نظرًا إلى تعدد المدارس والنظريات في تحليل الخطاب الإعلامي، والكشف عن المرتكزات التي يستند إليها خطاب إعلامي ما، فإننا في مسعانا إلى الكشف عن المرتكزات التي يستند إليها الخطاب الإعلامي الإيراني تجاه المملكة العربية السعودية؛ سنعتمد على الدلالات التي تمتلكها المفهومات التي تبثها الرسالة الإعلامية، إذ إن الخطاب في سياق إبلاغه عن الرسالة، يمتلك القدرة على التأثير في المرسل إليه، لكن هذه القدرة تأتي من سياق مفهومي راسخ، وهو سياق تاريخي- فكري.
إن الخطاب الإعلامي في السياسة الخارجية لدولة من الدول لا ينفصل عن وعي القائمين على صناعة القرار السياسي بالمفهومات المسبقة للمرسل إليه، وهو _أي المرسل إليه_ في مثالنا (الخطاب الإعلامي الإيراني)، فاعل سياسي آخر، ينتمي في وعيه الفكري- السياسي إلى منظومة مصالح، مؤسسة على سياق مفهومي، تترابط فيه المفهومات مع بعضها، وتنتمي إلى حقل دلالي سياسي، من مثل الإسلام السياسي، التشدد، الإرهاب، حقوق الإنسان، الاستبداد السياسي.
يعتمد التوجه الاستراتيجي في الخطاب الإعلامي الإيراني مرتكزات رئيسة تجاه السعودية، وأبرز تلك المرتكزات:
- التشكيك: والمقصود به التشكيك الدائم في النظام السياسي، وسياساته الخارجية والداخلية، وأن مصير هذه السياسات هو الإخفاق.
- دعم التشدد: الربط بين النظام السياسي السعودي والتطرف، والإرهاب، ودعم رجال الدين والقوى المتشددة.
- الانكشاف السعودي أمام الحكومات الغربية التي ترى في النظام السعودي طرفًا رئيسًا في دعم المنظمات الإرهابية.
- استبداد النظام السياسي في تعاطيه مع الحريات العامة والخاصة، وخصوصًا حقوق المرأة.
- استناد شرعية النظام السعودي إلى الدعم الأميركي.
- فشل الدبلوماسية السياسية –بمثل ما حدث في اليمن- واستبدال العدوان بالأدوات السياسية.
- عدم التزام السعودية بالمعاهدات والاتفاقات الدولية في أثناء الحروب.
- معاداة الثقافة والفن، وتقييد العمل في هذين المجالين، بطريق القوانين.
يسعى مثل هذا الخطاب الذي يتبناه الإعلام الإيراني تجاه السعودية إلى بناء صورة نمطية عن النظام السياسي في المملكة العربية السعودية، مرتكزًا في ذلك على دراسته توجهات الرأي العام الغربي، بشقيه السياسي (الرسمي)، أو الموجه للعموم، وخصوصًا لجهة المنزلة التي تحتلها قضايا التشدد والإرهاب في منظومة الرأي العام الغربي.
ويستفيد الخطاب الإيراني في عمله على بناء صورة نمطية مضادة لروح العصر وقيمه من صورة أعم وأشمل كان الغرب نفسه قد كرّسها للإنسان العربي، وخصوصًا الخليجي، وهي صورة رجل النفط الثري، والمتخلف عن ركب الحضارة، وإلى ما هنالك من صور سلبية، لا تمتّ بصلة إلى المنجز الغربي في احترام حقوق الإنسان، وخصوصًا النساء.
وفي المقابل، فإن تكريس تلك الصورة النمطية عن النظام السياسي السعودي، وما يتفرّع عنه من منظومات قانونية، وعلاقات اجتماعية، يصب في خدمة تكريس الصورة النقيضة عن النظام السياسي الإيراني، وإظهاره مظهر التمتع بالشرعية السياسية الداخلية والخارجية، والقدرة على تحقيق أهدافه السياسية الاستراتيجية، والالتزام بحقوق الإنسان، وامتلاك دستور يحترم الحريات العامة والخاصة، وبخاصة الأقليات والنساء، وذلك كله على الرغم من أن الدستور الإيراني منسجم مع الشريعة الإسلامية، ويشرف عليه مشرعّون يمثلون مصالح الفئات الشعبية المختلفة، وهو ما لا يتوفر في النظام السعودي.
تظهر هذه الديناميات التي تحرك الخطاب الإعلامي الإيراني تجاه السعودية مدى استفادة إيران من مفهوم (القوة الناعمة) في بناء مرتكزات الخطاب، إذ تسعى (القوة الناعمة) إلى جذب الآخر، بأنماط الصور الذهنية الراسخة عن الذات والآخر، وإظهار الذات نقيضًا للآخر، ليس بالكشف عن ممكنات الذات، ومدى تحققها السياسي والحضاري، وإنما بوضعها نقيضًا لفشل الآخر وإخفاقه.
إن مرتكزات الخطاب الإعلامي الإيراني تفصح عن مدى الأهمية التي يوليها العقل الاستراتيجي الإيراني للمخاطب الغربي، حيث إن هذا المخاطب يأتي في قائمة الفئات المستهدفة من الخطاب، وهو الأمر الذي يتبع أولويات السياسة الخارجية الإيرانية، وإدراكها الوزن النوعي لهذا المخاطب في سياسات العالم والمنطقة على حد سواء، فهي تعتمد على معاييره هو (أي معايير الغرب) في رسم الصورة النمطية للخصم (المملكة العربية السعودية).
وهذا الخطاب الموجه للغرب له، من وجهة نظر إيرانية، تأثير مهم في أوساط عربية كثيرة، وذلك نتيجة افتراقها السياسي أو العقائدي أو الاجتماعي عن المملكة، ومن ثم فإن هذا الخطاب يسعى إلى كسب هذه الفئات، وتكريس حال التناقض بينها وبين النظام السياسي السعودي، وربما اقترابها أكثر من المفهومات الإيرانية حول الصراع الإيراني السعودي، أو التوجهات الاستراتيجية الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط.
سابعًا: خلاصة
أعطت الخبرات الثورية للقوى الإسلامية في إيران، في صراعها مع نظام الشاه محمد رضا بهلوي الإعلام مكانة مهمة ورئيسة في ترسيخ منزلة الاتجاه المحافظ في حكم إيران، ومن ثم في مواجهات إيران، سواءً مع جيرانها الإقليميين، أو مع الغرب، وبناءً على هذا الوعي بدور الإعلام، وقدرته الكبيرة في التأثير، فقد حدّثت إيران مؤسساتها الإعلامية الرسمية، وربطتها مباشرة بأعلى سلطة سياسية في البلاد، التي منحت الحرس الثوري الإيراني دورًا رئيسًا في قيادة مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، فأصبحت مؤسسة كبيرة، وتتمتع بموارد مالية، تسمح لها بالعمل على تحسين فروعها، والاضطلاع بأدوار إعلامية عدة.
لقد أدركت إيران حجم المتغيّرات العولمية، والقفزات الكبيرة في مجالي التقانة والاتصالات، وتأثيرهما في التواصل، فاتجهت إلى تخصيص قنوات إعلامية بلغات أوروبية وآسيوية، متجهة إلى توسيع قاعدة جمهورها، ومجال تأثيرها في بناء الرأي العام حول سياساتها، خصوصًا مع الجبهات الكثيرة التي خاضت فيها إيران تحدياتها السياسية، وتطلبّت منها بناء خطاب إعلامي متعدد المستويات، يتمتع بالقدرة على المناورة، من دون أن يفقد اتجاهاته وثوابته الاستراتيجية.
والتوسّع الإعلامي الإيراني أخذ بالحسبان المساحة الجيوسياسية الواسعة المحيطة بإيران التي تتطلب حالًا من التوازن في بناء المؤسسات الكفيلة بتغطية تلك المساحة، بما يتلاءم والتحديات التي تفرضها كل دولة من دول الجوار الإقليمي على حدة، التي تمتلك فيها دول الخليج العربي أهمية كبرى، وخصوصًا المملكة العربية السعودية، إذ اكتسب الصراع معها أهمية كبرى في عقب التداعيات التي شهدتها منظومتا الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، بعد انتفاضات الربيع العربي، وخصوصًا في المشرق العربي، واليمن.
إن تمايز الخطاب الإعلامي تجاه الخليج يحكمه عدد من العوامل، لكن يبقى أكثرها بروزًا موقف دول الخليج العربي من السياسات السعودية الخارجية، وهو ما يمنح الخطاب الإعلامي القدرة في إيجاد مساحات من التناقض بين مصالح دول الخليج، واستثمارها في زيادة مساحة التناقض، وإبراز أن السياسات السعودية – على الرغم من كون السعودية القوة الكبرى خليجيًا- لا تمثل عموم سياسات الخليج، ثم إن سياسات السعودية الداخلية لا تنسجم مع القوانين الدولية لحقوق الإنسان، وخصوصًا حقوق الأقليات والنساء.
يحاول الخطاب الإعلامي الإيراني تجاه السعودية بناء صورة نمطية للنظام السياسي السعودي، وتكريس تلك الصورة لدى الرأي العام في الغرب، ومن ثم وضع النظام السياسي السعودي موضع الاتهام، بما يتعلق بالمسؤولية عن زيادة التشدد الديني، ودعم رجال الدين المتطرفين، وتمويل التنظيمات الإرهابية، وهي قضايا ذات وزن كبير في الرأي العام الدولي عمومًا، والغربي على وجه الخصوص.
ومن البديهي، أن تكريس مثل تلك الصورة النمطية يظهر النظام السياسي الإيراني بأنه النظام النقيض للنظام السياسي السعودي، ولئن كان النظام السياسي السعودي- وفقًا لهذا الخطاب- نظامًا متحالفًا مع المتشددين والإرهابيين، ويستثمرهم في تحقيق مصالحهم، فإن إيران -وعلى الرغم من كونها دولة دينية- تمثل الوجه الآخر، بحيث تقوم سياساتها، ولا سيما التوسعية منها، على مبدأ مكافحة الإرهاب.
وفقًا لهذه الديناميات التي يحفل بها الخطاب الإعلامي الإيراني فهو خطاب مؤسسي، يقف خلفه عدد من المؤسسات ومراكز الأبحاث السياسية التي تعمل بالتنسيق مع وزارة الخارجية الإيرانية، أو مع مؤسسة الرئاسة، ومن ثم فإن هذا الخطاب هو امتداد للقوة الناعمة الإيرانية، وأحد أدواتها المهمة، وله مهمات استراتيجية، تتجاوز المنطق الآني للحوادث، ولا تخضع لدلالاته الإعلامية والسياسية المباشرة، وإنما تستند إلى مرتكزات ثابتة في إطار الصراع الوجودي الاستراتيجي مع دول الخليج العربي عمومًا، والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص.
حسام ميرو
باحث وصحافي سوري مهتم بالشؤون الثقافية والسياسية والاستراتيجية.
باحث وصحافي