أولوية حزب الله السلطة لا الدولة
طوني فرنسيس
كان انتخاب الجنرال ميشال عون رئيساً للبنان قبل نحو ست سنوات بعد فرض فراغ المنصب لعامين ونصف العام ذروة النجاح في مسيرة حزب الله الرامية إلى الإمساك بلبنان ورقةً وساحة.
في حينه خرجت الصحف الإيرانية إلى تقييم النصر الحاسم الذي سيتوجه الحزب المذكور في الانتخابات النيابية بعد عامين (2018) ما سيسمح لقائد “فيلق القدس” المسؤول عن المنظمات العسكرية الإيرانية في المشرق العربي قاسم سليماني آنذاك الإعلان باعتزاز أن أكثرية أعضاء المجلس النيابي الجديد من حصة المحور الإيراني (74 نائباً)، ليضيف إليه آية الله يونسي أن إيران باتت تتحكم في أربع عواصم عربية قبل أن يتبرع معمم آخر بضم سوريا بوصفها الولاية الإيرانية الـ35.
بدا لبنان في عام 2016 مسرحاً لاستعراض نجاحات المرشد بعد التدخل في سوريا والعراق بحجة محاربة المتطرفين. وبعد عام من الانقلاب الحوثي الدموي باليمن. في لبنان تم الأمر بالإكراه ومن دون دماء مباشرة، والخلاصة التي أعلنتها إيران كانت صريحة؛ انتخاب عون انتصار لطهران وهزيمة للرياض، فبعد ساعات على انتخاب عون عنونت صحيفة “وطن أمروز” الإيرانية بالحرف العريض، “خسارة السعودية”. وشرحت كيف أن “إصرار حزب الله ومقاومته تهديدات السعودية انتهى بقبول سمير جعجع وسعد الحريري ترشيح عون، ما يمثل اعترافاً بالهزيمة والاستسلام أمام حزب الله”.
أما صحيفة المرشد “كيهان” فقد عنونت يومها وبالبنط الأسود العريض؛ “انتصار تاريخي لحزب الله الذي استطاع فرض إرادته في لبنان”. وتابعت في السياق حديثها عن “إجماع على اعتبار تنصيب عون انتصاراً لإيران وهزيمة للسعودية”، فيما كانت صحف أخرى توضح أن “أهم ميزة لعون هي تأييده تدخل حزب الله في سوريا”، وفعلاً كان الحزب في تلك الأيام ومعه طهران يحتاجان تغطية رسمية لبنانية لذلك التدخل في وجه انتقادات لبنانية وعربية ودولية دخلت لاحقاً غياهب الأمر الواقع .
لا يمكن فهم نتائج انتخابات 2022 النيابية التي جرت قبل أسبوعين، بمعزل عن المسار الذي فرضته إيران منذ 2016. فانتصارها الذي بدا كاسحاً منذ ذلك التاريخ أصيب بنكسة عارمة، ولم يعد زعيم حزبها في لبنان، الذي اعتاد التدخل في شتى تفاصيل الحياة اليومية وفرض عليه اشتباكاً مع الوطن العربي وبلدان الكرة الأرضية، قادراً على فرض توجيهاته وإصدار أوامره في كل شاردة وواردة، كما أن ممثله النيابي الأبرز لم يعد مرتاحاً ليردد كما فعل مرةً بعد اجتماعه بعون “نحن أسياد هذا البلد”.
مُني الحزب بخسارة أكيدة، فقد خاض معركته تحت عنوان الحفاظ على أكثرية نيابية موالية كالتي حازها قبل أربع سنوات ولم يخفِ رغبته بالوصول إلى احتلال ثلثي مقاعد النواب ليتمكن من فرض تعديلاته الدستورية التي يطمح إليها وحسم مسألة الحكم بأكملها لمصلحته، فيما اعتبر مرشده الإمام الخامنئي أن انتخابات لبنان هي “استفتاء على جبهة المقاومة”، وقيل إنه تبرع من جيبه الخاص بـ25 مليون دولار لدعم هذا الاستفتاء، وفق أمير طاهري في الشرق الأوسط.
وفي سبيل الحشد والتحريض لجأت قيادة حزب الله إلى كل وسائل الإثارة؛ استعملت التخويف الطائفي لضمان ولاء جمهور الطائفة الشيعية، وأعلنت الاستنفار العسكري في مواكبة لمناورات “مركبات النار” الإسرائيلية، ثم اعتبرت كل من لا يواليها عميلاً لتل أبيب وأميركا وللسفير السعودي وسائر دول مجلس التعاون، ثم حرصت على توحيد صفوف الحلفاء وضمان وراثة سعد الحريري في “زعامة” الطائفة السنية، وعلى تحجيم الزعامة التاريخية لوليد جنبلاط في الطائفة الدرزية، وتوحيد الأنصار المسيحيين وجمعهم إلى آخرين يمارسون بحقهم منافسات لا حدود لها في السباق إلى المغانم والحصص والمواقع .
ولم يلتفت قادة “المقاومة” ومحورها كثيراً إلى الصوت الجديد الخارج من شوارع الانتفاضة ضد تحالف الميليشيات والفساد. فهذا الصوت كان حزب الله الذي سعى باكراً إلى وأده، وعشية الانتخابات لم يحظ منه إلا بشموله في خانة اتباع السفارات وعملاء الأجانب ضد المحور الإيراني المقدس، ولم يتوقع الحزب الذي لا يؤمن بقدرة الناس وحقها في الاختيار، أن يكون لأصوات التغيير القدرة على الاختراق من خارج الخطاب الطائفي، ولذلك ركز على تصنيف الطوائف، مثيراً ذعرها ومخاوفها ليعرض عليها الحماية والأمان في ظل صواريخه .
ثم حصلت الانتخابات، وارتعب الحاكمون منذ 2016 من مشهد الشباب اللبناني المقترع في بلدان المهجر. هؤلاء غادروا وطنهم بفعل حكام سيطروا على بلادهم فأورثوها الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار والفقر المدقع، وفي بلدانهم الجديدة اغتنموا الفرصة ليقولوا كلمتهم، واكتمل تأثير أصواتهم في المرحلة الثانية من الانتخابات وجاءت الحصيلة الإجمالية كارثية بالنسبة لحزب الله ومحوره الإقليمي؛ سقط رموز النظام السوري المدعومين من ثنائي حزب الله وخرقت معاقل الحزب المناطقية وفاز رموز الطوائف الأخرى التي يتشكل منها لبنان وجلّهم ممن يرفضون هيمنته على الدولة، ثم والأهم من ذلك، فاز عدد كبير من مرشحي الاحتجاج الشعبي في ظاهرة لم يشهد لبنان مثيلاً لها في السابق .
تراجع حضور إيران، لو تمسكنا بإحصاءات سليماني، من 74 نائباً يشكلون أكثريةً في المجلس السابق إلى نحو 60 نائباً. خسر حزب الله الرهان وخسر خامنئي الاستفتاء، وأي ترتيبات جديدة تتصل بالحكم في لبنان عليها أن تأخذ الوقائع المستجدة بعين الاعتبار.
أول هذه الترتيبات انتخاب رئيس لمجلس النواب خلال أيام وثانيها تشكيل حكومة جديدة وتعيين رئيس لها وثالثها في الخريف المقبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية. إزاء هذه الاستحقاقات بدا حزب الله وأنصاره مرتبكين. تولى أحد قادة الحزب تهديد الفائزين في الانتخابات ثم دعاهم رئيسه إلى حكومة شراكة، ورداً على فوز المعارضة البيّن، انكفأ الحزب الإيراني إلى المربع الطائفي فقاس فوزه بعدد أصوات الشيعة الذين صوّتوا له لا نسبةً إلى أعداد المقاعد النيابية التي حظي بها. لن يعترف الحزب المذكور بتراجع شعبيته بين اللبنانيين، والنظام البرلماني لا يعنيه إلا بقدر ما يشكل له واجهة وستار عمل.
في خطاب له بعد الانتخابات ميز زعيمه حسن نصرالله بين الدولة والسلطة، واضطر للحديث عن قبوله بالدولة الشعار الذي ترفعه غالبية اللبنانيين في وجه الدويلة، لكنه اشترط في المقابل الحصول على السلطة.
قال نصرالله في ذلك قبل ثلاثة أيام، “يجب السعي لبناء دولة عادلة وقادرة، لكن الأساس هو السلطة التي تحكم هذه الدولة”. قصارى القول إن هزيمة إيران الانتخابية في لبنان لا تعني بالضرورة خلاصاً أوتوماتيكياً لمشكلات هذا البلد، بل إن لبنان في واقعه الراهن عرضة لمعضلة شل المؤسسات الدستورية والغرق في مزيد من الأزمات، هذا ما فعله به المحور الإيراني في السابق ولا سبيل للاعتقاد أنه سيغير في سلوكياته. وفي المحطات الدستورية الأربع المقبلة من انتخاب رئيس للمجلس النيابي إلى تكليف رئيس للحكومة الجديدة فإلى انتخاب رئيس للجمهورية في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) سنكون شهوداً على ألاعيب متوقعة جرى مثلها في السابق مع فارق بسيط في تراجع عدة وعتاد اللاعب الأكبر وراعيه الإيراني.
اندبندنت عربية